الفطري الذي جبل عليه الناس كافة ، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه ، وقيل : التعبير بذلك للمقابلة ، وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول ، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان (إِلَى الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى ، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح ، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم ، وفيه بعد (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون أبدا ، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء ، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة ، وقيل : إن قوله سبحانه (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٨] دل على الوعد وكفى به.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف ، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون ، وقيل : استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها ، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عزوجل ، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته ، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي ، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي ـ ألم تنظر ، أو ألم ينته علمك ـ إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل ، وأين مقام الخليل من الحبيب ، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين ، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب ـ وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، كما قاله مجاهد وغيره ـ وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها ، واختلف في وقتها فقيل : عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار ـ وهو المروي عن مقاتل ـ وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما ـ وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في ـ أن ، وإن ـ وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل ، والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما ، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية ، وعلى الثاني تهكمية ـ كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه ـ وجوز أن يكون (آتاهُ) إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه