وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن ، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد ، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه ـ إن كان ـ أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله ، وجعله ظرفا ـ بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم ـ لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ، ومن ابتدائية صفة (رَيْبٍ) ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه ، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب ، وقيل : عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في ـ ريب منه ـ ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه ، والتضعيف في (نَزَّلْنا) للنقل وهو المرادف للهمزة ، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب ـ أنزلنا ـ وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير (١) ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا (٢) في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو ـ فتحت وقطعت ـ و ـ نزلنا ـ لم يكن معتديا قبل ، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا ، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير ، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر ، وكذا مثل (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) [الأنعام : ٣٧] و (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥] وقد قرئ بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا : ونظيره تدرج وتدخل ونحوه ـ رتبه ـ أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك ، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة ، وفي تعدي ـ نزل ـ بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة ـ تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره ، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم :
لا تدعني إلا بيا عبدها |
|
فإنه أشرف أسمائي |
وقرئ ـ عبادنا ـ فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم ، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه ، وبعضهم (٣) جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الإنعام : ٩١] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه ـ مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى ـ بنا ـ المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم
__________________
(١) الزمخشري ، والبيضاوي ، وأبو السعود ، وغيرهم ا ه منه.
(٢) قلنا ذلك لورود موتت الإبل.
(٣) هو أبو حيان ا ه منه.