يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به ، فمحصلها اعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها ، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه ؛ فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة ، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب (فَأَطَّلِعَ) على قراءة جعفر من (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) [غافر : ٣٦] إلخ على رأي (١) إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق ، والقول بالإلحاق لها بليت ـ تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع ـ يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته ، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم ، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي ـ بتأويل القول ـ خبر عن الذي على جعله مبتدأ ، وقيل : الجملة متعلقة بالذي ، والفاء جزاء شرط محذوف ، والمعنى هو الذي (جَعَلَ لَكُمُ) ما ذكر من النعم المتكاثرة ، وإذا كان كذلك (فَلا تَجْعَلُوا) إلخ ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو ـ صيرت الحديد سيفا ، ومنه ما تقدم على وجه ـ يكون بالقول والعقد ـ والأنداد ـ جمع ند ـ كعدل وأعدال أو نديد ـ كيتيم وأيتام ـ والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح ، وأصله من ند ندودا إذا نفر ، وقيل : الند المشارك في الجوهرية فقط ، والشكل المشارك في القدر والمساحة ، والشبه المشارك في الكيفية فقط ، والمساوي في الكمية فقط ، والمثل عام في جميع ذلك ، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله (أَنْداداً) والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وإنما عبدوها ـ لتقربهم إليه سبحانه زلفى ـ إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان ، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر ، فإن المشركين جعلوا الأصنام ـ بحسب أفعالهم وأحوالهم ـ مماثلة له تعالى في العبادة ، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم ، ولعل الأول أولى ، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا (أَنْداداً) لمن يستحيل أن يكون له ند واحد ، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك :
أربّا واحدا أم ألف ربّ |
|
أدين إذا تقسمت الأمور |
تركت اللات والعزى جميعا |
|
كذلك يفعل الرجل البصير |
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) والمفعول مطروح ـ أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي ـ فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه ، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم ، أي (تَعْلَمُونَ) أنه سبحانه لا يماثله شيء ، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية ، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول ، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ ـ باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر ـ فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل : إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا
__________________
(١) فإنه قيل : يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. ا ه منه.