لمساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ، ويوحد فقال تعالى (فِي بُيُوتٍ ...) فكأن معدن هذه القلوب هي هذه المساجد ، وهذه إشارة واضحة إلى أن التربية الإيمانية الكاملة إنما تكون في المسجد ، إذ هي وحدها التي تتوافر فيها شروط التربية الصالحة.
والجار والمجرور في قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.) إما أن نعلقه ب (كمشكاة) وإما أن نعلقه ب (يوقد) السابقين في الذكر ، وإما أن نعلقه ب (يسبح) المتأخر والتعليقان الأولان أقوى ، فعلى التعليق الأول إنما يأخذ النور الكامل من حياته في المسجد ، وعلى التعليق الثاني نفهم أن إمداد القلب بالشريعة ومن أهلها إنما يكون داخل المسجد. قال قتادة في تفسير (البيوت) في الآية : هي هذه المساجد ، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها ، وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول : (مكتوب في التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في بيتي ، أكرمته ، وحق على المزور كرامة الزائر) ومعنى أذن هنا أمر بدليل ما بعده ، إلا أن مع الأمر يوجد الإرادة المشرفة ، فقد شاء الله لهذه البيوت أن تكون معدنا للخير ، وفي (أن ترفع) تفسيران : تفسير الرفعة بالرفع الحسي ، فهو أمر ببنائها وتشييدها ، وتفسير الرفعة بالرفع المعنوي ، فهو أمر بتعظيمها ، ولا شك أن المسلمين مأمورون بهذا وهذا ، وموعودون على هذا وهذا الخير الكثير ، ومما يدخل تحت الرفع المعنوي : عدم اللغو فيها ولا يدخل في الرفع الحسي زخرفتها.
٦ ـ بمناسبة قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أقول : دلت الآية على أن أصحاب القلوب المذكورة لهم عمل صالح ، وحال خائف ، فياويح المقصرين بالعمل ، وياويح الغافلين الآمنين.
روى النسائي عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الخلائق».
٧ ـ تشبيه المؤمن بالمشكاة دليل على أن جسد المسلم هو مركز تجمع النور ، ومركز توجيهه ، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن الكامل ينير للناس الطريق ، ويرى الناس