يبقى أن يقال :
فلم قال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)(١) ، وإذا انتقض العهد فلم جاز الإمهال؟
فيقال : لا يبعد جواز الإمهال لما فيه من المصلحة في تدبر من أمهل في عاقبة أمره ومآل حاله ، وأن ذلك يكون داعيا إلى الإسلام ، وإنما لا يحسن الامهال لمن يتوقع الغوث ، فأما من لا يخشى الغوث ، فلا يقبح منه الامهال ، ودل عليه قوله :
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ)(٢).
ومعناه : غير معجزيه ، بتمكين نبيه منهم ، ونصرته عليهم ، أو نفاذ مراد الله تعالى فيهم بما شاء ، وهو معنى قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ).
فكان المقصود من التسمح بهذه المدة ، التوصل إلى هذه البغية ، وهو رجاء الإسلام.
وإذا بان السبب الذي لأجله يجوز نبذ عهود الكفار إليهم ، فقد قال ابن عباس : إن المشركين أخذوا في نقض عهودهم التي بينهم وبينه صلّى الله عليه وسلم ، فأمر الله تعالى نبيه فيمن كان عهده أربعة أشهر ، أن يقره إلى مضي هذه المدة ، وذلك من يوم النحر إلى عشر من شهر ربيع الآخر ، ومن كان له من العهد أكثر ، أمر أن يحط إلى ذلك ، ومن كان أقل ، أمر أن يرجع به إلى هذا القدر ، ومن لم يكن له عهد ، أمر أن يجعل له خمسين ليلة من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، إلا حي من بني كنانة ، كان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، فأمر الله تعالى أن يتم عهدهم إلى مدتهم ، وهو معنى قوله :
__________________
(١) سورة براءة آية ٢. ومعنى فسيحوا : سيروا
(٢) تابع لنفس الآية.