من الآيات السابقة أن سبب الكفر بالقرآن والرسول الظلم والإفساد والصمم والعمى ، وليس السبب احتمال الريب في القرآن أو في شخصية الرسول صلىاللهعليهوسلم ، كما أن السبب ليس ظلم الله لهم في إضلالهم وإبقائهم في الضلال. وهذا الذي تقرره الآية الخاتمة في هذه المجموعة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي : لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال وبالظلم والإفساد والعمى والصمم ، فهم إذن الظالمون لأنفسهم.
فائدة :
قال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ...) : (وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد صلىاللهعليهوسلم فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده ، وليستعينوا بمن شاؤوا ، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨) ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وكذا في سورة البقرة ـ وهي مدنية ـ تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية (البقرة ٢٤) ، هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم ، إليها المنتهى في هذا الباب. ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته ، فكانوا أعلم الناس وأفهمهم له ، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا ، كما عرف السحرة بعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليهالسلام لا يصدر إلا عن مؤيد ، مسدد ، مرسل من الله ، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله ، وكذلك عيسى عليهالسلام بعث في زمن علماء الطب ، ومعالجة المرضى ، فكان يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه ، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله) ا ه.