هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف «إنشاء» الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال!
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة ـ بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم ؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ، ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته ، وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر .. ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم ، كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقوله ؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية ؛ بما قذف به في وجهها الرسول الكريم ، تنفيذا لأمر ربه العظيم :
(قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ : لا أَشْهَدُ. قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ..
إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض ، من الجاهلية التي تغمر الأرض ، هذا الموقف ، لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية ، قاطعة ، مزلزلة رهيبة .. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شىء قدير ، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد ـ بما فيهم الطواغيت المتجبرون ـ أضعف من الذباب ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله ؛ وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله ، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض ، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت ، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد ، وتنذرها هذه النذارة ، وتعلنها هذا الإعلان ، وتفاصلها هذه المفاصلة. وتتبرأ منها هذه البراءة. إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي ؛ إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان. منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزّل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما ؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشىء الإسلام في الأرض إنشاء .. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع