الاعتراف بالنعمة ، والكفر بالمنعم والنعمة عناد ، فلذا استحق الكافر العذاب. وقدم في الآية الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه ، وتعريضه للمنافع ، فيشكر شكرا مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ، ثم شكر شكرا متصلا ، فكان الشكر متقدما على الإيمان. ومعنى النص : أي شىء يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) يعلم من آمن وشكر ، ومن نافق أو كفر ، ويشكر لمن شكر ، بمعنى أنه يجزي على الشكر ، أو أن شكره لعبيده هو أنه يقبل اليسير من العمل ، ويعطي الجزيل من الثواب. وبعد أن أمرنا الله في هذين المقطعين بالإيمان ، وتحرير الولاء. ورفع همتنا إلى أن نجمع مع الإيمان الشكر ، لأن الشكر أعلى درجات العبودية يحذرنا فيما يلي من خلق يتنافى مع الإيمان ، وهو الجهر بالسوء فقال : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.) أي : إلا جهر من ظلم ، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم ، والسوء كله لا يحبه الله سواء كان جهرا أو غير جهر ، ولكن الجهر أفحش. وجهر المظلوم بالسوء إما بدعائه على الظالم ، وذكره بما فيه من السوء ، أو رده عليه بمثل ما ظلمه به ، أو الكلام عليه ضمن حدود مظلمته للناس ، ولا شك أن رفع الدعوى على الظالم ، وذكر حيثيات الظلم جائز بإجماع. (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً.) أي : سميعا لشكوى المظلوم ، عليما بظلم الظالم ، ثم حث تعالى على العفو ، وألا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار ، بعد ما أطلق له الجهر به ، حثا على الأفضل فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ.) أي : إن تظهروا خيرا أو تعملوا الخير سرا (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ.) أي : تمحوه عن قلوبكم ، وتعرضوا عن الرد على من ظلمكم. (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.) أي : أنه لم يزل عفوا عن الآثام مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنته ، وذكر عفوه مع قدرته دليل لمن ذهب على أن إبداء الخير وإخفاءه ، والعفو عن السوء ، كل ذلك في موضوع العفو. فمن عفى فقد أظهر خيرا. ومن لم يعف فقد أخفى خيرا ، ومن عفا عن السوء كله ، فإنه في هذا كله يكون متخلقا بأخلاق الله الكاملة. وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة ، ولا زاد الله بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه».
دلت هاتان الآيتان على أن من أخلاق المؤمنين العفو عمن ظلمهم ، وترك السوء ، فالآيتان في سياقهما تدلان على أن حفظ اللسان والعفو ، من القضايا الرئيسية في موضوع الإيمان ، لأن السياق كله في هذا الموضوع.