خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد ، لأن الكفر بأي ركن أو بأي مما يدخل في كل ركن من أركان الإيمان كفر بالكل. والملاحظ أنه قد ذكرت خمسة أركان من أركان الإيمان هنا ، لأن الركن السادس ـ وهو الإيمان بالقدر ـ جزء من مضمون الإيمان بالله ، لأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله الأزلي ، وإرادته الأزلية ، وإبراز ما أراده بقدرته ، وكون ذلك مسجلا في اللوح المحفوظ وكل ذلك يدخل في الإيمان بالله.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) هم المنافقون آمنوا في الظاهر ، وكفروا بالسر مرة أخرى ، وازدياد الكفر منهم ، ثباتهم عليه إلى الموت ، أو أنهم آمنوا ثم كفروا ، ثم آمنوا ، ثم كفروا ، على حسب الأحوال من ظهور للإسلام وأهله ، أو ظهور على الإسلام والمسلمين. (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) بسبب كفرهم الذي لا يغفره الله. (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً.) أي : طريقا إلى النجاة ، أو إلى الجنة بسبب كفرهم مرة بعد مرة. وقد استدل الإمام علي بهذه الآية وكون الكفر بعد الإيمان ذكر مرة بعد مرة ثلاث مرات : أن المرتد يستتاب ثلاثا. وذكر المنافقين بعد هذه الآيات يشعر بأن هذه حال من أحوال المنافقين. (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ.) أي : أخبرهم ، ووضعت (بشر) مكان أخبر تهكما بهم على طرائق العرب في الخطاب (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.) أي : مؤلما. ثم وصف الله المنافقين مبينا حالهم بتوسع ، كما فعل في مقدمة سورة البقرة ؛ لخفاء حال المنافقين ، ولكثرة خطرهم وعظمه. (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قلوبهم معهم ، وعواطفهم معهم ، ويعطونهم نصرتهم ، ويستنصرون بهم ، ويعطونهم طاعتهم ومودتهم. (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ.) أي : إن المنافقين يوالون الكفرة طلبا منهم للمنعة والنصرة والجاه ، وظهور هذه المعاني في عصرنا بارز جدا ويعطيها تفسيرها العملي ، ففي عصرنا نجد من مظاهر الولاء ، انتساب أبناء المسلمين للأحزاب الكافرة ، وإعطاء قيادتها الكافرة الولاء والطاعة والنصرة بغية تحصيل شىء من جاه الدنيا ومتاعها. ولذلك بين الله ـ عزوجل ـ أن العزة له وحده ليقطع دابر مثل هذه الأفكار. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يعطي منها من يشاء ، ويمنعها من يشاء. فلا يطلبن المؤمن العزة إلا من الله. وأي قيمة لعزة في الدنيا تعقبها ذلة أبدية في الآخرة ، ولأن المجالسة مظهر من مظاهر الولاء ، وطلب العزة ، ولكون هذا مرتبطا بقضية النفاق ، جاءت الآية (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.) أي : في القرآن ، وهو إشارة إلى ما ورد في سورة الأنعام ، مما سيأتي معنا (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى