آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح ، ولو قلت أهلك الله الأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود ، لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام ، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعنى أن تدميرهم كان عدلا وقسطا ، لأنهم استوجبوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) حيث جعل المنفي إرادة الظلم ، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا ، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم ، كأنه نفى أن يريد ظلما مّا لعباده (١). ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أى لا يريد لهم أن يظلموا ، يعنى أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين (٢).
(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)
التنادى. ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) ، (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد : وهو أن يندّ بعضهم من بعض ، كقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا ، فبيناهم يموج بعضهم في بعض : إذ سمعوا مناديا : أقبلوا إلى الحساب (تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارّين عن النار غير معجزين.
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ
__________________
(١) قوله «كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده» هذا على مذهب المعتزلة من أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده ، وأن الارادة بمعنى الرضا. وعند أهل السنة أنه تعالى يخلق الشر ويريده كالخير ولا يرضى الشر ، فالرضا غير الارادة عندهم ، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(٢) قال محمود : «يجوز أن يكون معناه معنى : وما ربك بظلام للعبيد. وهذا أبلغ ، لأنه إذا لم يرد الظلم كان عن فعله الظلم أبعد ، وحيث نكر الظلم أيضا ، كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده. قال : ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فيكون المعنى : أن الله لا يريد لعباده أن يظلموا ، لأنه ذمهم على كونهم ظالمين» قال أحمد : هذا من الطراز الأول ، وقد تقدم مذهب أهل السنة فيما يتعلق بارادة الله تعالى خلافا لهذا وأشياعه.