سؤال عن سبب العجلة (١) فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه. قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين ، أحدهما : إنكار العجلة في نفسها. والثاني : السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدّم يسير ، مثله لا يعتدّ به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولقائل أن يقول : حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله ، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.
(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)(٨٥)
أراد بالقوم المفتونين : الذين خلفهم مع هرون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت : في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة ، وحسبوها أربعين مع أيامها ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ قلت : قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة ، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه ، وأخذ في تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أى وهو أشدّهم ضلالا : لأنه ضال مضل ، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم : وقيل : كان من أهل باجرما. وقيل : كان علجا من كرمان ، واسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقا قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر.
(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت : سئل عن سبب العجلة ... الخ» قال أحمد : وإنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة وهو أعلم : أن يعلم موسى أدب السفر ، وهو أنه ينبغي تأخير رئيس القوم عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بطائفته ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم ، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا فقال : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله عز وجل ، ومسارعة إلى الميعاد ، وذلك شأن الموعود بما يسره ، يود لو ركب إليه أجنحة الطير ، ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.