جعله لفرط جوعه كجماعة جياع (لا تَخافُ) حال من الضمير في (فَاضْرِبْ) وقرئ : لا تخف ، على الجواب. وقرأ أبو حيوة (دَرَكاً) بالسكون. والدرك والدرك : اسمان من الإدراك ، أى : لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في (وَلا تَخْشى) إذا قرئ : لا تخف ، ثلاثة أوجه : أن يستأنف ، كأنه قيل وأنت لا تخشى ، أى : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى ، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ، (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) وأن يكون مثله قوله :
كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا (١)
(ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار ، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أى : غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ : فغشاهم من اليم ما غشاهم. والتغشية : التغطية. وفاعل غشاهم : إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون ، لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله (وَما هَدى) تهكم به (٢) في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ
__________________
(١) وتضحك منى شيخة عبشمية |
|
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا |
وظل نساء الحي حولي ركدا |
|
يراودن منى ما تريد نسائيا |
لعبد يغوث بن وقاص الحارثي ، أسر يوم الكلاب في بنى تميم ، فقال قصيدة يذكر فيها حاله منها ذلك. والشيخة : العجوز. والعبشمية : المنسوبة لعبد شمس. وهو باب من النحت. وأثبت الألف في «ترى» مع أنه مجزوم لضرورة الوزن ، أو للاتساع. وقيل إنها عين الفعل. وأصله تراى حذفت لامه للجزم. ونقلت حركة الهمزة للراء ، وأبدلت الفاء. وحكى إعمال «لم» للنصب. وحكى أيضا إهمالها. وقياس النسبة إلى «يمن» : «يمنى» لكنهم حذفوا إحدى ياءى النسب ه وعوضوا عنها الألف ، وكان الذي يقوده صبيا ، فسألته : من أنت؟ فقال : سيد القوم ، فضحكت منه. والركد ـ كركع ـ : جمع راكدة ، أى مقيمة لا تذهب من عنده. والمراودة : مفاعلة من راد يرود إذا تعرف حال المكان متطلبا للخصب ، وهو قريب من معنى أراد يريد ، أى : يتطلبن منى بلطف واختبار : هل أرضى أولا؟ الشيء الذي تريده نسائي منى ، وهو الجماع.
(٢) قال محمود : «إنما قيل وما هدى تهكما به» قال أحمد : فان قلت : التهكم أن يأتى بعبارة والمقصود عكس مقتضاها ، كقولهم : إنك لأنت الحليم الرشيد ، وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين. وأما قوله تعالى (وَما هَدى) فمضمونه هو الواقع ، فهو حينئذ مجرد إخبار عن عدم هدايته لقومه. قلت : هو كذلك ، ولكن العرف مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية ، مهتديا في نفسه ، ولكنه لم يهد عمرا. وفرعون أضل الضالين في نفسه ، فكيف يتوهم أنه يهدى غيره. وتحقيق ذلك : أن قوله تعالى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) كاف في الاخبار بعدم هدايته لهم مع مزيد إضلاله إياهم ، فان من لا يهدى قد لا يضل ، فيكون كفافا. وإذا تحقق غناء الأول في الاخبار ، تعين كون الثاني لمعنى سواه ، وهو التهكم. والله أعلم.