(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٩)
وقرئ : أرسل الريح. فإن قلت : لم جاء (فَتُثِيرُ) على المضارعة دون ما قبله ، وما بعده؟ قلت : ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية ، بحال تستغرب ، أوتهمّ المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبط شرا :
بأنىّ قد لقيت الغول تهوى |
|
بسهب كالصّحيفة صحصحان |
فأضربها بلا دهش فخرّت |
|
صريعا لليدين وللجران (١) |
لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول ، وثباته عند كل شدّة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها : لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه. والكاف في (كَذلِكَ) في محلّ الرفع ، أى : مثل إحياء الموات نشور الأموات وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال «هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهزّ (٢) خضرا» قال : نعم. قال : «فكذلك يحيى
__________________
(١) فمن ينكر وجود الغول إنى |
|
أخبر عن يقين بل عيان |
بأنى لقد لقيت الغول تهوى |
|
بسهب كالصحيفة صحصحان |
فأضربها بلا دهش فخرت |
|
صريعا لليدين وللجران |
لتأبط شرا. والغول : أثى الشياطين. والعيان : المشاهدة بالعين. والهوى : الهبوط. والمراد : سرعة العدو.
والسهب ـ بالفتح ـ : الفضاء المستوى البعيد الأطراف. والصحيفة : الكتاب. والصحصحان والصعصعان ـ بالفتح ـ : المستوى من الأرض. والجران ـ ككتاب ـ : مقدم عظم العنق من الحلق إلى اللبة ، وجمعه جرنة ككتبة ، وأجرنة كأفئدة. يقول : فمن ينكر وجود الغول فقد كذب ، فإنى أخبر عن يقين. ويجوز أن المعنى : فيا من تنكر وجود الغول ، إنى أخبر إخبارا ناشئا عن يقين ، وهو ما كان بدليل قاطع بل عيان ومشاهدة بالعين ، بأنى قد لقيتها تسرع في مكان متسع مستو ، وكرر الوصف بذلك توكيدا ، وأظهر موضع الإضمار لزيادة تمكين الغول في ذهن السامع وللتهويل ، وكان الظاهر أن يقول : فضربتها ، لكن عدل إلى المضارع ليحكى الحال الماضية كأنها موجودة الآن مشاهدة فيتعجب منها ، وتعلم شجاعته ، أى : فجعلت أضربها بلا خوف فسقطت مطروحة على يديها وعنقها. وفعيل : يوصف به المذكر والمؤنث كما هنا.
(٢) قوله «ثم مررت به يهز خضرا» في الخازن : «يهتز». (ع)