فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا ـ وهو غلام حدث ـ. فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله (قالَتْ نَمْلَةٌ) ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة ، (١) وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامه أنثى ، وهو وهي. وقرئ : مسكنكم ولا يحطمنكم ، بتخفيف النون ، وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها. وأصله : يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلا منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك هاهنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها.
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)
ومعنى (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه ، يعنى أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام. وأما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (٢) فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك
__________________
(١) قال محمود «لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، فقال أبو حنيفة ـ وكان شابا ـ : سلوه عن النملة التي كلمت سليمان ، أذكر كانت أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل : كيف لك ذلك؟ قال : لأن الله عز وجل قال (قالَتْ نَمْلَةٌ) ، ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة» قال أحمد : لا أدرى العجب منه أم من أبى حنيفة أن يثبت ذلك عنه ، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس ، يقال : نملة ذكر ونملة أنثى ، كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وشاة ذكر وشاة أنثى ، فلفظها مؤنث. ومعناه محتمل ، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها ، وإن كانت واقعة على ذكر. بل هذا هو الفصيح المستعمل. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة ، فحينئذ قوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ) روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء ، وإنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشى عليه حكم ، لأنه نسبه إلى الامام أبى حنيفة على بصيرته باللغة ، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على غزارة علمه وتبصره بالمنقولات ، ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له ، فيا للعجب العجاب ، والله الموفق للصواب.
(٢) وقعت في هذه الجملة عدة أحاديث. منها حديث ابن مسعود «جاء رجل من اليهود. فقال : يا محمد ، إن الله يمسك السماوات على أصبع الحديث. وفيه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» متفق