وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيره ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما ، فألقته الريح في أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله ، خير مما أوتى آل داود (يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ، أى : توقف سلاف العسكر (١) حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٨)
قيل : هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت : لم عدّى (أَتَوْا) بعلى؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما ؛ أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ، كما قال أبو الطيب :
ولشدّ ما قربت عليك الأنجم (٢)
لما كان قربا من فوق. والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم ، وقرئ نملة يا أيها النمل ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم «السبع» في السبع. قيل : كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس (٣) ، فنادت : يا أيها النمل : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل : كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة
__________________
(١) قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا |
|
ولشد ما قربت عليك الأنجم |
لأبى الطيب المتنبي ، طلب منه رجل المدح ، فأبى وقال ذلك ، واللام للتأكيد ، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب ، وأصله شدد كحسن ، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم ، كما هو قياس بناء التعجب ، أى : ما أشد مجاوزتك لقدرك ، يعنى : كثرت مجاوزتك لمقدارك ، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة ، وقال : عليك ، دون : إليك ، لأن قرب الأنجم من جهة العلو ، أى : كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق ، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى ، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن ، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية ، ففيه شبه التورية.
(٣) قوله «تتكاوس» في الصحاح : كوسته على رأسه تكويسا ، أى : قلبته ، وكاس هو يكوس : إذا فعل ذلك. وكاس البعير : إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)