إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة (١) ، ونحوه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح ، وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففنى وأصبح مسكينا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «التمسوا الرزق بالنكاح (٢)»
__________________
ـ وتعالى عن ذلك ـ فقد ثبت الاضطرار إلى تقدير شرط للجمع بين الوعد والواقع ، فالقدرية يقولون : المراد إن اقتضت الحكمة ذلك ، فكل من لم يغنه الله بأثر التزوج فهو ممن لم تقتض الحكمة إغناءه. وقد أبطلنا أن يكون هذا الشرط هو المقدر ، وحتمنا أن المقدر شرط المشيئة كما ظهر في الآية الأخرى ، وحينئذ فكل من يستغن بالنكاح فذلك لأن الله تعالى لم يشأ غناه. فلقائل أن يقول : إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج ، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب ، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح ، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة ، فمن مستغن به ، ومن فقير كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم ، وليس هذا كاقرار شرط المشيئة في الغفران للموحد العاصي ، فان الوعد ثم له ارتباط بالتوحيد. وإن ارتبط بالمشيئة أيضا ، من حيث أن غير الموحد لا يغفر الله له حتما ، ولا تستطيع أن تقول : وغير الناكح لا يغنيه الله حتما ، لأن الواقع يأباه. فالجواب ـ وبالله التوفيق ـ : أن فائدة ربطه الغنى بالنكاح : أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، والغفلة عن المسبب جل وعلا ، حتى غلب الوهم على العقل ، فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما ، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما ، وإن كان واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع بالايذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه ، مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام لنفاد المال ، وقد يقدر الاملاق مع عدمه الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام والواقع يشهد بذلك فلا مراء ، فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر مرتبطات بمسبباتها ارتباطا لا ينفك ليست على ما يزعمونه ، وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب ، غير موقوف ، تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة ، وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح ، لأنه استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار ، وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير ، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه ، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه ، وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس ، فمعنى قوله حينئذ (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ....) الآية أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله ، فعبر عن نفى كونه مانعا من الغنى بوجوده معه ، ولا تبطل المانعية ، لا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك ، فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) فان ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة ، وليس ذلك بمراد حقيقة ، ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة ، وبيان أن الصلاة متى قضيت فلا مانع ، فعبر عن نفى المانع بالانتشار بما يفهم تقاضى الانتشار ، مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع والله أعلم ، فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه.
(١) قوله «إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة» كأنه مبنى على أنه تعالى يجب عليه فعل الصلاح ، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة : لا يجب على الله شيء. (ع)
(٢) أخرجه الثعلبي من رواية مسلم بن خالد وابن مردويه من رواية أبى السائب سلام بن جنادة عن أبى أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعا «تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال» قال الحاكم تفرد به سلام وهو ثقة : وقال البزاز والدارقطني وغير سلام يرويه مرسلا اه. وهو كما قال. وقد أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى أسامة ـ