العصمة فتنبه عليه. وقيل : نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ، زاد المنافقون به شكا وظلمة ، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى : أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت ، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك ، إرادة امتحان من حولهم ، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل (تَمَنَّى) : قرأ. وأنشد :
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة |
|
تمنّى داود الزّبور على رسل (١) |
وأمنيته : قراءته. وقيل : تلك الغرانيق : إشارة إلى الملائكة ، أى : هم الشفعاء لا الأصنام (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يذهب به ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أى يثبتها.
(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ
__________________
ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) ـ الآية» زاد في رواية ابن مردويه : فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون» ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه ابن مردويه من طريق أبى عاصم النبيل عن عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. ولم يشك في وصله ، وهذا أصح طرف هذا الحديث. قال البزار : تفرد بوصله أمية بن خالد عن شعبة ، وغيره يرويه عنه مرسلا. وأخرجه الطبري وابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وهو من طريق العوفى عن جده عطية عنه ، وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي ، ومن طريق قتادة ، ومن طريق أبى العالية. فهذه مراسيل يقوى بعضها بعضا. وأصل القصة في الصحيح بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ـ فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» قال البزار : المعروف في هذا رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجها ابن مردويه من طريقه. وأخرجه الواقدي من طريق أخرى. قلت : وفي مجموع ذلك رد على عياض حيث قال : إن من ذكر من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب إلا رواية البزار. وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى ما ذكره وفيه ما فيه مع وقوع الشك. قلت : أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلا. فان الجميع ثقات وأما الشك فيه فقد يجيء تأثيره ولو فردا غريبا لكن غايته أنه يصير مرسلا ، إنما هو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة ، أما هو حجة إذا اعتضد عند من يرد المرسل إنما يعتضد بكثرة المتابعات. تبع ثقة رجالها. وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الضعيفة الواهية في الرواية القوية. فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة أى يعتمد على الرواية المتابعة وليس فيها ولا فيما تابعها اضطراب والاضطراب في غيرها. فيكفى لأنه ضعيف برواية الكلبي ، ويكفى ما عداها ، وأما طعنه فيه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصحاح التي لا يؤخذ بظاهرها ، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين.
(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٧ فراجعه إن شئت اه مصححه ،