عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم ، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. فإن قلت : كأن القياس أن يقال : إنما أنا لكم بشير ونذير ، لذكر الفريقين بعده. قلت : الحديث مسوق إلى المشركين. ويا أيها الناس : نداء لهم ، وهم الذين قيل فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٢)
(مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال : «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» (١). والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبىّ غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. والسبب في نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم ، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم» وهو في نادى قومه ، وذلك التمني في نفسه ، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) التي تمناها ، أى : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق (٢) العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى. وروى : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته
__________________
(١) أخرجه أحمد وإسحاق من رواية معاذ بن رفاعة عن على بن زيد عن القاسم عن أبى أمامة «أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم الأنبياء؟ فقال : مثله. وعلى ضعيف. ورواه ابن حبان من طريق إبراهيم بن هشام الغساني حدثنا أبى عن حذيفة. يعنى يحيى الغساني عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر ـ فذكره في حديث طويل جدا. وأفرط ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام المذكور. ولم يصب في ذلك : فإنها طريقا أخرجها الحاكم وغيره من رواية يحيى بن سعيد السعيدي عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبى ذر بطوله. ويحيى السعيدي ضعيف. ولكن لا يأتى الحكم بالوضع مع هذه المتابعة.
(٢) أخرجه البزار والطبري والطبراني وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد ابن جبير قال : لا أعلمه إلا عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم ، حتى انتهى إلى قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) فجرى على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، الشفاعة منها ترتجى ، قال : فسمع بذلك مشركو مكة ، فسروا بذلك. فاشتبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ـ