في (قُلْ) وجمع في (آمَنَّا) ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه. فإن قلت : لم عدّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت : لوجود المعنيين جميعا ، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر. ومن قال : إنما قيل (عَلَيْنا) لقوله : (قُلْ) ؛ و (إلينا) لقوله (قولوا) تفرقة بين الرسل والمؤمنين ، لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسف. ألا ترى إلى قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وإلى قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا). (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتها ؛ ثم قال (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) يعنى التوحيد والإسلام الوجه لله تعالى (دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد للشياع. وقرئ : ومن يبتغ غير الإسلام بالإدغام.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨٩)
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة ـ وهم اليهود ـ كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ؛ وذلك حين عاينوا ما يوجب قوّة إيمانهم من البينات : وقيل : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، منهم طعمة ابن أبيرق ، ووحوح بن الأسلت ، والحرث بن سويد بن الصامت. فإن قلت : علام عطف قوله (وَشَهِدُوا)؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل ؛ لأن معناه بعد أن آمنوا ، كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ) وقول الشاعر :
... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً |
|
وَلَا ناعِبٍ ........ (١) .... |
__________________
(١) مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة |
|
ولا ناعب إلا يبين غرابها |
أنشده أبو المهدى. والشؤم : ضد اليمن. والناعب : الصائح ، من باب ضرب ونفع. والبين : مصدر بمعنى ـ