نسيان محوج إلى كسب جديد وإلاّ فالحاصل بعد الذهول التفات لا إدراك إلاّ مجازا. والحقّ أنّ الذهول زوال الصورة عن المدركة فيكون الموجود بعده إدراكا ، وإن كان بلا كسب جديد. ومنها الإدراك الذي هو بعد الجهل ويعبّر عنه أيضا بالإدراك المسبوق بالعدم والعلم يقال للإدراك المجرّد من هذين الاعتبارين بمعنى أنّه لم يعتبر فيه شيء من هذين القيدين ، وبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة يقال : الله تعالى عالم ولا يقال عارف ، إذ ليس إدراكه تعالى استدلاليا ولا مسبوقا بالعدم ولا قابلا للذهول ، والنسبة بين المعرفة والعلم بهذين المعنيين هي العموم مطلقا ، هكذا في حواشي المطول في تعريف علم المعاني ، وباقي النّسب يظهر بأدنى توجّه.
ومنها ما هو مصطلح الصوفية. قال في مجمع السلوك : المعرفة لغة العلم ، وعرفا العلم الذي تقدّمه نكرة. وفي عبارة الصوفية العلم الذي لا يقبل الشكّ إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته ، ومعرفة الذات أن يعلم أنّه تعالى موجود واحد فرد وذات وشيء وقائم ولا يشبه شيئا ولا يشبهه. وأما معرفة الصفات فأن يعرف الله تعالى حيّا عالما سميعا بصيرا مريدا متكلّما إلى غير ذلك من الصفات. وإنما لا تطلق المعرفة على الله تعالى لأنّها في الأصل اسم لعلم كان بعد أن لم يكن ، وعلمه تعالى قديم.
ثم المعرفة إمّا استدلالية ، وهو الاستدلال بالآيات على خالقها لأنّ منهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء ، وهذه المعرفة على التحقيق إنّما تحصل لمن انكشف له شيء من أمور الغيب حتى استدلّ على الله تعالى بالآيات الظاهرة والغائبة ، فمن اقتصر استدلاله بظاهر العالم دون باطنه فلم يستدل بالدليلين فتعطّل استدلاله بالباطن وهي درجة العلماء الراسخين في العلم.
وأمّا شهودية ضرورية وهو الاستدلال بناصب الآيات على الآيات ، وهي درجة الصّدّيقين وهم أصحاب المشاهدة. قال بعض المشايخ : رأيت الله قبل كلّ شيء وهو عرفان الإيقان والإحسان ، فعرفوا كلّ شيء به لا أنّهم عرفوه بشيء انتهى. ويقرب من هذا ما في شرح القصيدة الفارضية من أنّ المعرفة أخصّ من العلم لأنّها تطلق على معنيين ، كلّ منهما نوع من العلم ، أحدهما العلم بأمر باطن يستدلّ عليه بأثر ظاهر كما توسّمت شخصا فعلمت باطن أمره بعلامة ظاهرة منه ، ومن ذلك ما خوطب به رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (١). وثانيهما العلم بمشهود سبق به عهد كما رأيت شخصا رأيته قبل ذلك بمدة فعلمت أنّه ذلك المعهود ، فقلت عرفته بعد كذا سنّة عهده ، فالمعروف على الأول غائب وعلى الثاني شاهد. وهل التفاوت البعيد بين عارف وعارف إلاّ لبعد التفاوت بين المعرفتين؟ فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله تعالى إلاّ الاستدلال بفعله على صفته وبصفته على اسمه وباسمه على ذاته ، أولئك ينادون من مكان بعيد. ومنهم من يحمله العناية الأزلية فتطرقه إلى حريم الشّهود فيشهد المعروف تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) ويعرف به أسماءه وصفاته على عكس ما يعرفه العارف الأول ، فبين العارفين بون بيّن ، إذ الأول لغيبة معروفة كنائم يرى خيالا غير مطابق للواقع ، والثاني لشهود معروفه كمستيقظ يرى مشهودا حقيقيا مطابقا للواقع انتهى كلامه.
قال في مجمع السلوك : أوحى الله تعالى لداود عليهالسلام يا داود : أتدري ما معرفتي؟ قال : لا. قال : حياة القلب في مشاهدتي. وقال
__________________
(١) محمد / ٣٠.
(٢) الأعراف ١٧٢.