وسلم).
فطالما حاول كثير من أولي النعمة أن يؤلفوا قلوب المعدمين بأموال فازدادوا بغضاء وعداء ، إذ لا صلة لهذه العطيات بمرضات الله وعناياته الخاصة ، فالرحمة الربانية هي الأصيلة في أية وسيلة هي وصيلة للتأليف : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩).
فهنا تأييدان اثنان ربانيان : ١ (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) الخاص دون أسباب ظاهرة ، سواء أكان بالملائكة أم دون أي سبب خلقي ، ٢ (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) وهم من الأسباب الظاهرة ولكن شرط تأليف قلوبهم ، وليس هو أيضا إلا من الله ، إذا فالنصر واحد هو من عند الله دون فارق في أصله أنه من عند الله.
فلقد وقعت المعجزة الربانية التي لا يقدر عليها إلّا الله ، أن استحالت هذه القلوب النافرة المستنفرة ، وهذه الطباع الشّموس المستنكرة ، استحالت إلى هذه الكتلة المتراصّة المتآخية الذّلول ، المتحاثّة بعضها بعضا في تحكيم الألفة والمحبة بذلك المستوى المنقطع النظير في تاريخ أي بشير ونذير.
إنها بالفعل عجيبة أن تستحيل قلوب متنافرة إلى مزاج عريق من الحب والألفة الإيمانية التي تليّن جاسيها ، وترقق حواشيها ، وتندي جفافها ، فإذا نظرة العين ولمسة اليد ونطق اللسان وخفقة القلب ، هي ترانيم من التعارف والتعاطف الوطيد العتيد والسماحة والهوادة ، التي لا يعرف سرها إلا الذي ألف بينها.
ولمثل هذه القلوب يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم): إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى ، قيل : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تخبرنا من هم قال : هم قوم تحابوا بروح الله بينهم على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، والله أن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس (١).
__________________
(١) أخرجه أبو داود عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم).