تكاثر نكت علم البيان وفقره ، ومحاسن حجوله وغرره ، وغرائب وشيه وأعلام حبره ، تنثال إرسالا على الناظر البصير ، وتزدحم أسرابا على الناقد النحرير.
وأنا أضرب لك سورة الكوثر ـ وهي أقصر السور ـ مثالا أنصبه بين يديك ، وأجعله نصب عينيك ، فأنت أكيس الأكياس ، ومعك نهية (٨٨) كشعلة المقباس ، وتكفيك الرمزة وإن كانت خفية ، والتنبيهة وإن كانت غير جلية ، فكيف إذا ذللت بأنور من وضح الفلق ، وأشهر من شية (٨٩) الأبلق.
أقول وبالله التوفيق : ورد على رسول الله صلىاللهعليهوآله عن عدو الله العاص بن وائل (٩٠) ما يهدم مقاله ، ويهزم محاله (٩١) ، وينفس عن رسوله ، وينيله نهاية سؤله ، فأوحى إليه سورة على صفة إيجاز واختصار ، وذلك ثلاث آيات قصار ، جمع فيها ما لم يكن ليجتمع لأحد من فرسان الكلام ، الذين يخطمونه بالخطام (٩٢) ويقودونه بالزمام ، كسحبان (٩٣) وابن عجلان ، وأضرابهما من الخطباء المصاقع والبلغاء البواقع (٩٤) الذين تفسحت في هذا الباب خطاهم ، وتنفس في ميادينه مداهم.
أنظر إلى العليم الحكيم كيف حذا ثلاث الآيات على عدد المسليات ، من
__________________
(٨٨) النهية : العقل «لسان العرب ـ نهى ـ ١٥ : ٣٤٦».
(٨٩) الشية : كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره ، وأصله من الوشي. «النهاية ـ شيه ـ ٢ : ٥٢٢».
(٩٠) العاس بن وائل بن هاشم السهمي ، من قريش ، أحد الحكام في الجاهلية ، كان نديما لهشام بن المغيرة وأدرك الإسلام ، وظل على الشرك ويعد من المستهزئين ومن الزنادقة الذين ماتوا كفارا وثنيين ، وهو والد عمرو بن العاص صاحب معاوية. «الأعلام ٣ : ٢٤٧».
(٩١) يقال : رجل يماحل : أي يدافع ويجادل ، من المحال ، بالكسر ، وهو الكيد ، وقيل : المكر ، وقيل : القوة والشدة ، أنظر «النهاية ـ محل ـ ٤ : ٣٠٣».
(٩٢) الخطام : الزمام. وخطمت البعير : زممته «الصحاح ـ خطم ـ ٥ : ١٩١٥».
(٩٣) سحبان بن زفر بن أياس الواثلي ، من باهلة ، خطيب يضرب به المثل في البيان ، يقال : «أخطب من سحبان» و «أفصح من سحبان» اشتهر في الجاهلية وعاش زمنا في الإسلام ، وكان إذا خطب يسيل عرقا ولا يعيد كلمة ، أسلم في زمن النبي ولم يجتمع به.
«الإصابة ٢ : ١٠٩ / ٣٦٦٣ ، بلوغ الإرب ٣ : ١٥٦ ، مجمع الأمثال ١ : ٢٤٩ ، الأعلام ٣ : ٧٩».
(٩٤) الباقعة : الرجل الداهية. «لسان العرب ـ بقع ـ ٨ : ١٩».