ولا أذكر لك ما في كلام فصحائهم ، من خطبائهم وشعرائهم ، من طرق فصاحة انتهجوها ، وخيل بلاغة ألجموها وأسرجوها ، وما وجد في مراكضهم ومضاميرهم ، من سبقهم ومحاضيرهم ، من الافتنان في بابي الكناية والمجاز ، وإصابة مواقع الإشباع والإيجاز ، والإبداع في الحذف والإضمار ، والأغراب في جملة اللطائف والأسرار ، فإنك تعارضني بأن هذه الأشياء أشرك الله فيها العقلاء ، ورأينا الأعاجم قد صنفوا فيها معاجم ، فكم في الفرس من الفرسان ، وما أهل خراسان بالخرسان ، على أني لو قلت تلك (٤٧) لوجدت مقالا ، وصادفت لفرسي مجالا ، ولأصبت فيه وجها من الاحتجاج ، وردا للشغب واللجاج ، فإن هذه الأشياء لا تجمل ولا تجزل ولا تنبل ولا تفحل ، ولا تحسن ولا تبهى ، ولا تختال ولا تزهى ، إلا واقعة في هذا اللسان ، دائرة بين أظهر هذا البيان ، ومثل ذلك مثل الوشي الفاخر ، والحلي من سري الجواهر ، تلبسها الحسناء فتزيدها حسنا إلى حسن ، وتعطيها زينا إلى زين ، فإن نقلتها إلى الشوهاء تخاذل أمرها وتضاد ، وتناقض وتراد ، وعصف بنصف حسنها وزينها ، ما تطلعه الشوهاء من قبحها وشينها ، وكفاك بما عددت عليك أدلة متقبلة ، وشهودا معدلة ، على أن هذا اللسان هو الفائز بالفصل ، الحائز للخصل (٤٨) ، وأن ما عداه شبه (٤٩) إلى العسجد ، وشب (٥٠) إلى زبرجد.
ثم اسمع بفضلك ، فقد آن أن أفذلك (٥١) ، وأختم هذا الفصل بما يحلق
__________________
(٤٧) الكلمة قلقة في هذه العبارة.
(٤٨) يقال : أصاب خصله واحرز خصله : غلب على الرهان ، وقال بعضهم : الخصلة الإصابة في الرمي «لسان العرب ـ خصل ـ ١١ : ٢٠٦».
(٤٩) الشبه والشبه : النحاس الأصفر ، أنظر «لسان العرب ـ شبه ـ ١٣ : ٥٥».
(٥٠) الشب : حجر معروف يشبه الزاج ، وقد يدبغ به الجلود «النهاية ـ شبب ـ : ٤٣٩».
(٥١) يقال : فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه ، «القاموس المحيط ـ فذلك ـ ٣ : ٣١٥».