والنائحات ، وقراء المآتم ، ومنشدو مجالس العزاء الحسيني إنما يهتمون بمضمون الشعر ومدى تأثيره على السامع أكثر ما يهمهم الشاعر نفسه ، بل إن الشاعر يغفل عنه غالبا عندهم وعند السامعين على سواء ، فلا يسمونه إلا نادرا ، ولأغراض خارجة عن إطار القراءة وإقامة المأتم.
ولا يسعني أن أتجاوز هذا الموضوع إلا وأن أذكر واحدا من هؤلاء ، وقد أدرك عصره الشريف ، وسمع الكثير من شعره ، وهو الناشئ البغدادي ، علي ابن عبد الله بن وصيف (٢٧١ / ٨٨٤ ـ ٣٦٦ / ٩٧٦) (صاحب المراثي الكثيرة في أهل البيت) (٢٨) قال معاصره وصديقه وحاكي سيرته وقضاياه ، الحسين بن محمد الخالع ، الأموي نسبا ، البغدادي ، (٣٣٣ / ٩٤٥ ـ ٤٢٢ / ١٠٣١) : (وكان الناشئ قؤوما بالكلام والجدل ، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارة ، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم ، وأشعاره فيهم لا تحصى كثرة) (٢٩) وراجع قضاياه ، بل وكراماته في النوح بشعره في ياقوت : ٥ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، لسان الميزان : ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، وإذا أردت نموذجا لما كان يناح به يومذاك في المآتم ، بل وإلى قرابة قرنين بعد ذلك العصر ، وهو عصر الخطيب الخوارزمي ، الموفق بن أحمد الحنفي (٤٨٤ / ١٠٩١ ـ ٥٦٨ / ١١٧٢) ، ونموذجا أيضا لشعر الناشئ ، فارجع إلى ما حكاه الخطيب الخوارزمي من شعره في مقتل الحسين عليهالسلام : ٢ / ١٤٥ ـ ١٤٧ صدرة بقوله : (وللناشئ ، علي بن وصيف ، مما يناح به في المآتم).
وأنا أعجب من الدكتور أنه يعمد إلى أبعد الاحتمالات من الواقع ، وأقربها إلى عالم الخيال والوهم ، فيختاره ، ويغلب ظنه عليه ، وهو أن شاعرا مغمورا له القدرة على مجاراة الشريف الرضي ، ولكنه ينسى نفسه ولا يشيد بمقدرته الشخصية ، بل يتقمص الشريف الرضي ، ويقلده في قصيدة عدد أبياتها اثنان وستون بيتا ، يوفق في ذلك ، إلا في عدة أبيات!! فلم لم يسلم الدكتور بأن الرضي نفسه هو القائل ، وأنه هو الذي خانه التوفيق ـ إن كان الدكتور مصرا على هذه
__________________
(٢٨) ابن الأثير : ٨ / ٦٨٨ ، ابن خلكان : ٣ / ٣٦٩ ، لسان الميزان : ٤ / ٢٣٨.
(٢٩) معجم الأدباء : ٥ / ٢٣٥.