جادت وسخت ، واذا لم تبك مسيئة موصوفة بان ضنت وبخلت.
فان قيل : انه أراد ان يقول : انى اليوم اتجرع غصص الفراق ، واحمل نفسي على مره ، واحتمل ما يؤديني اليه من حزن يفيض الدموع من عيني ، ويسكبها لكي اتسبب بذلك الى وصل يدوم ، ومسرة تتصل حتى لا اعرف بعد ذلك الحزن اصلا ، ولا تعرف عيني البكاء ، وتصير في ان لا ترى باكية ابدا ، كالجمود التي لا يكون لها دمع ، فان ذلك لا يستقيم ويستتب ، لانه يوقعه في التناقض ، ويجعله كأنه قال : احتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا لأصير في الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد عينه ان تبكى ثم لا تبكي ، لانها خلقت جامدة لا ماء فيها ، وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيه.
وجملة الامر ، انا لا نعلم احدا جعل جمود العين دليل سرور ، وامارة غبطة ، وكناية عن ان الحال حال فرح.
فهذا مثال فيما هو بالضد مما شرطوا من ان لا يكون لفظه أسبق الى سمعك من معناه الى قلبك ، لانك ترى اللفظ يصل الى سمعك وتحتاج الى ان تخب وتوضع في طلب المعنى.
ويجرى لك هذا الشرح والتفسير في النظم ، كما جرى في اللفظ لأنه اذا كان النظم سويا ، والتأليف مستقيما ، كان وصول المعنى الى قلبك تلو وصول اللفظ الى سمعك ، واذا كان على خلاف ما ينبغي : وصل اللفظ الى السمع ، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه ، واذا افرط الامر في ذلك : صار الى ـ التعقيد ـ الذي قالوا : انه يستهلك المعنى ، انتهى.