لا يَسَعُ
الفقهاءَ جهلُها ، ولا يُعذر الائمة والأُمراءُ إِذا فاتَهُم في طريق العلم
حَزْنُها وسهلُها ، لأَنها من لوازم فتيا الدين ، وضوابط قواعد الإِسلام
والمسلمين.
فأَما أهل السير
والأخبار ، والحديث والتواريخ والآثار ، فحاجتُهم إلى معرفتها أَمَسُّ من حاجة
الرياض إِلى القطار ، غبَّ إِخلاف الأَنواءِ ، والمُشفي إِلى العافية بعد يأْس من
الشفاء ، لأَنه معتمد علمهم الذي قَلَّ أَن تخْلوَ منه صَفْحَةٌ ، بل وِجْهَةٌ ،
بل سطرٌ من كتبهم.
وأَما أَهل الحكمة
والتّفهيم ، والتطبّب والتّنجيم ، فلا تقصُرُ حاجتُهم إِلى معرفته عمّن قدَّمنا ،
فالأَطباءُ لمعرفة أَمزجة البُلْدان وأَهوائها ، والمنجم للاطّلاع على مطالع
النجوم وأَنوائها ، إذ كانوا لا يحكمون على البلاد إِلا بطوالعها ، ولا يقضون لها
وعليها بدون معرفة أَقاليمها ومواضعها ، ومن كمال المتطبّب أَن يتطلَّع إِلى معرفة
مزاجها وهوائها ، وصحّة أَو سقم منبتها ومائها ، وصارت حاجتهم الى ضبطها ضرورية ،
وكشفهم عن حقائقها فلسفيَّة ، ولذلك صنَّف كثير من القدماء كُتباً سموها جغرافيا ،
ومعناها صورة الأَرض ، وأَلَّفَ آخرون كُتباً في أَمزجة البلدان وأَهوائها ، نحو
جالينوس ، وقبله بُقْراط وغيرهما.
وأما أَهلُ الأَدب
فناهيكَ بحاجتهم إِليها ، لأنّها من ضوابط اللّغوي ولوازمه ، وشواهد النّحوي
ودعائمه ، ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها ، وتزيين عقود لآلئ نظمه بشذرها
، فإِن الشعر لا يروق ، ونفسَ السامع لا تشوق ، حتى يذكر حاجر وزرود ، والدهناءَ
وهبود ، ويتحنّن الى رمال رضوى ، فيلزمه تصحيح لفظ الاسم وأَين صَقْعُه ، وما
اشتقاقُه ونُزهتُه ، وقَفْرُه وحَزْنُه وسهولتُه. فإنه إن زعم أنه وادٍ وكان جبلاً
، أَو جبلٌ وكان صحراءَ ، أَو صحراءُ وكان نَهَراً ، أَو نهرٌ وكان قَرْيَةً ، أَو
قريةٌ وكان شِعْباً ، أَو شعبُ وكان حَزْماً ، أَو حزمٌ وكان روضةً ، أَو روضةٌ
وكان صَفْصَفاً ، أَو صفصفٌ وكان مُستَنْقَعاً ، أَو مستنقعٌ وكان جَلَداً ، أَو
جلدٌ وكان سَبْخَةً ، أَو سبخةٌ وكان حَرَّةً ، أَو حَرَّةٌ وكان سهلا ، أَو سهلٌ
وكان وَعْراً ، أَو يَجعَلُه شرقيّاً وكان غربيّاً ، أَو جنوبيّاً وكان شماليّاً ،
سَفُلَ قدرُه ، ونَزُرَ كُثْرُه ، وآض ضُحْكةً ، ويرى أَنه ضُحكَة ، وجُعل هُزْأَة
، ويرى أَنه هُزَأَة ، واستُخِفَّ وزنُه واستُرذِل ، واستُقِلّ فضْلُه واستُجهِلَ
، فقد ذكر بعض العلماء أَنهم استدلوا على ان هذا البيت :
إِنَّ بالشعب ،
الذي دونَ سَلْعٍ ،
|
|
لقتيلاً ، دَمُه
ما يُطَلُ
|
ليس من شعر
تَأبَّطَ شرّاً ، بأَن سَلْعاً ليس دونه شعبٌ. ولقد صنَّف ، في عصرنا هذا ، إِمام
، من أَهل الأَدب ، جليلٌ ، وشيخ يُعْتَمَد عليه ويُرجَع في حلِّ المُشكلات إِليه
نبيلٌ ، كتاباً في شرح المقامات ، التي أَنشأَها أَبو محمد القاسم بن علي بن محمد
الحريري ، فطبَّقَ مَفصِلَ الإِصابة في شرح أفانين ضروبها ، وغَبَّرَ في وجه كل من
فَرَّغَ بالُه لإِيضاح مُشْكلها وغريبها ، فإِنه بَهرَ العقول وأَدهش الأَذهان بما
ذكره من أسرار بلاغتها ، وأَظهره من مخزون براعتها ، وأَوضحه من مكنون معانيها ،
وأَبانه من فتق الأَلفاظ التي فيها ، وأَوْرده من الأشباه والنظائر ، والعينون
والنواظر ، واصطلح الجمهور على تفضيله ،