بارمّا ، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه ، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه ، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة ، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب : ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا : طيب موافق ، فقال : صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية ، وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة والامتعة في البرّ والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه ، فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس ، قال : فأتى موضع بغداد وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر ، وذلك في صيف وحرّ شديد ، وكان في ذلك الموضع بيعة فبات أطيب مبيت وأقام يومه فلم ير إلا خيرا فقال : هذا موضع صالح للبناء ، فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار ، ولا يحمل الجند والرعية إلا مثله ، فخطّ البناء وقدّر المدينة ووضع أول لبنة بيده فقال : بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، ثم قال : ابنوا على بركة الله ، وذكر سليمان بن مختار أن المنصور استشار دهقان بغداد ، وكانت قرية في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي ، وما زالت داره قائمة على بنائها إلى أن خرب كثير مما يجاورها في البناء ، فقال : الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد ، فإنك تصير بين أربعة طساسيج : طسّوجان في الجانب الغربي وطسّوجان في الجانب الشرقي ، فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا ، واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى ، فإن تأخرت عمارة طسوج منها كان الآخر عامرا ، وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة ودجلة ، تجيئك بالميرة من القرب وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان ، وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة ، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرّا ، وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك ، وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل ، فأعجب المنصور هذا القول وشرع في البناء ، ووجه المنصور في حشر الصّنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فأحضروا ، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء ، وكان ممن حضر الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة الإمام ، وكان أول العمل في سنة ١٤٥ ، وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا ، وأن يجعل في البناء جرز القصب مكان الخشب ، فلما بلغ السور مقدار قامة اتّصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ، فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن.
وعن علي بن يقطين قال : كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة ، قال : فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر ، قال : وكان في الدير راهب عالم فقال لي : لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت : إنه يريد أن يبني مدينة ، قال : فما اسمه؟ قلت : عبد الله بن محمد ، قال : أبو من؟ قلت : أبو جعفر ، قال : هل يلقب بشيء؟ قلت : المنصور ، قال : ليس هذا الذي يبنيها ، قلت : ولم؟ قال : لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني