ومن أجل ذلك يجدر بنا أن ندرس كلا منها على حدة للخروج بصورة واضحة المعالم لكل فن من هذه الفنون البديعية الثلاثة. والآن وقد تتبعنا تاريخ المبالغة وتطورها وفصلنا القول عن المبالغة بمعنى التبليغ ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة ، فإننا نأتي على بعض أمثلة أخرى لها تزيدها وضوحا ، ثم ننتقل إلى دراسة كل من الإغراق والغلو على أنه فن بديعي مستقل بذاته.
فمن أمثلة المبالغة بمعنى التبليغ ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة ، قوله تعالى في وصف أعمال الكافرين : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها).
فلو وقف الكلام عند (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ) لكان المعنى تاما بليغا ، ولكن ترادف الصفات بعد ذلك والإفراط فيها أضاف للمعنى ظلالا زادت من درجة الهول الذي يطالعنا من خلال هذه الصورة التي لونتها المبالغة تلوينا يرفعها في البلاغة إلى ذروة الإعجاز.
ومن الأمثلة أيضا قول ابن نباته السعدي في سيف الدولة :
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله |
|
تركتني أصحب الدنيا بلا أمل |
ومنه قول ابن الرومي مبالغة في البخل :
لو أن قصرك يا ابن يوسف ممتل |
|
إبرا يضيق بها فناء المنزل |
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة |
|
ليخيط قدّ قميصه لم تفعل! |
وقوله أيضا :
فتى على خبزه ونائله |
|
أشفق من والد على ولده |
رغيفه منه حين تسأله |
|
مكان روح الجبان من جسده |