على الرحمة والشهادة فقد ورد أن سببه أشياء تقع من الأمة كظهور بعض المعاصي ، وقد روى أحمد بأسانيد حسان وصحاح عن شرحبيل بن حسنة وغيره «أنه ـ يعني الطاعون ـ رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم» وروى أحمد أيضا تفسير كونه دعوة نبيكم عن أبي قلابة بأنه صلىاللهعليهوسلم سأل ربه عزوجل ألا يهلك أمته بستة ، فأعطيها ، وسأله ألا يسلط عليهم عدوّا من غيرهم ، فأعطيها ، وسأله ألا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعه ، فقال صلىاللهعليهوسلم في دعائه : فحمى إذا أو طاعونا» كرره ثلاثا ؛ فقد تضمن الطاعون نوعا من المؤاخذة ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم دعا به ليحصل كفاية إذاقة بعضهم بأس بعض ، ويكون هلاكهم حينئذ بسبب لا يعصون به ، بل يثابون ؛ فحفظ الله تعالى بلد نبيه صلىاللهعليهوسلم من الطاعون المشتمل على الانتقام إكراما لنبيه صلىاللهعليهوسلم وجعل لهم الحمى المضعفة للأبدان عن إذاقة بعضهم بأس بعض والمطهرة لهم ؛ فقوله صلىاللهعليهوسلم «فحمى إذا» أي : للموضع الذي لا يدخله الطاعون ، بل عصم منه وهو جواره الشريف ، وقوله «أو طاعونا» أي للموضع الذي لم يعصم منه ، وهو سائر البلاد ، هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأحاديث ، وهو يقتضي شرف الحمى الواقعة بالمدينة وفضلها ؛ لأنها دعوة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ورحمة ربنا أيضا ؛ لأنها من لازم دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم ولأنها جعلت في مقابلة الطاعون الذي هو رحمة لغيرهم ؛ فتكون الحمى رحمة لهم ؛ فهي غير حمى الوباء الذاهبة من المدينة ، رابعها ـ ذكره الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي ـ وهو أن المعنى لا يدخل إلى المدينة من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس (١) ، قال الحافظ ابن حجر : وهو يقتضي أن الطاعون يدخلها في الجملة ، وليس كذلك ؛ فقد جزم ابن قتيبة وتبعه جمع جم من آخرهم النووي بأن الطاعون لا يدخل المدينة أصلا ، ولا مكة أيضا ، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه دخلها أصلا ، ثم ذكر الحافظ ابن حجر الحديث المتقدم المشتمل على ذكر مكة أيضا ، ثم قال : وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد بمكة ليس كما ظن ناقله كونه طاعونا ، بل وباء ، وهو أعم من الطاعون ، أو يجاب بجواب القرطبي المتقدم ، قال : ولعله بنى جوابه على أن الطاعون ما ينشأ عن فساد الهوى فيقع به الموت الكثير ، وليس كذلك ؛ ففي الصحيح قول أبي الأسود : قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا ؛ فهذا وقع بالمدينة وهو وباء ، ولكن الشأن في تسميته طاعونا ، قال : والحق أن المراد بالطاعون في هذه الأحاديث الذي ينشأ
__________________
(١) عمواس : كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس.