والكرنك بصعيد مصر ، ومن هنا سميت الأقصر بالحمدية ، وهو اسمها الأشهر عند أهل الصعيد. وتتطاحن القبائل المختلفة لأسباب عدة أهمها الثأر للدم ، وهو ثأر يتعرض له الأقربون من ذوى الرحم كما جرت عادة البدو الشرقيين ، ولكن يخيل إلىّ أن العرب هنا لا يراعون هذه الفوارق الدقيقة التى فصلت فيها القول عند وصفى للبدو. ودية الدم عند الجعليين ألف ثوب دمور ، وهى تعادل اليوم ثلاثمائة ريال إسبانى أو أربعمائة ، ويؤديها القاتل على أقساط إذا رضى بها أهل القتيل ، ورضاؤهم لا يعرضهم لكثير من التشهير والتعيير كما يعرض أمثالهم فى شبه جزيرة العرب. وهم يحتفظون بحساب منظم للدية ، ويقيدون فيه للقاتل أو أهله ما يؤدى من دينه لأهل القتيل مهما قلّ أو تفه ـ حتى الخبز القليل أو حفنات الذرة. وقد تمضى السنون الطوال قبل أن يسدّد الدين كله ، ولكن الفريقين يقضيان هذه الفترة متصافيين.
وفى العرب الجعليين غدر وخيانة ، ولكنها خلق العرب جميعا فى هذه البلاد. ولم يبلغ بهم الانحلال والتنكر لماضيهم مبلغا ينسيهم أن الوفاء أول فضائل العرب. وطالما سمعت الجعليين يتشدقون بوفائهم لمن ارتبطوا وإياهم بعهد الصداقة والإخاء ، ولكن رأى الناس جملة فيهم لا يقرهم على هذه الدعوى ولا ينسب لهم هذا الخلق الكريم (١).
وأعدى أعداء هؤلاء العرب قبيلتان هما الشكرية والكواهلة (وهما اسمان عربيان) ، وتنزل القبيلتان الأرض فى جنوب الجعليين وجنوبهم الغربى ، ويغير أفرادهما على الجعليين المرة بعد المرة وينهبون بلادهم ويخطفون ماشيتهم. ويسكن بعض الشكرية ضفاف النيل قرب أبو حراز ، ولكن أكثرهم يعيشون متبدين فى الصحراء الشرقية. أما الكواهلة فينتشرون حتى إقليم دندر ، وينزل
__________________
(*) مات من الجعليين شيخ فى شندى ، فرأيت النساء من أهله يجبن أهم الشوارع والطرقات معولات مولولات وقد كدن يتجردن من الثياب إلا أسمالا بالية ، أما رءوسهن ووجوههن وصدورهن فيحثون عليها التراب حتى أصبح منظرهن منكرا أشد النكر ، وكانت تمشى معهن صواحبهن ترددن العويل وتعقدن الأيدى. وفى العشية نحرت الأبقار وأرسلت أطباق صغيرة من لحمها لجميع التجار النزلاء.