يتجه النهر فى مجراه من أسوان لكرسكو من الشمال إلى الجنوب عموما ، ثم ينحرف إلى الغرب ، ويحتفظ بهذا الاتجاه الجديد طوال مجراه إلى دنقلة. وطبقة النهر الشرقية فى هذا الجزء من الوادى أصلح للزراعة من ضفته الغربية ، وتراها أينما كان لها عرض يذكر مكسوة بطبقة خصبة من الغرين الذى يرسبه النيل فوقها. أما فى الضفة الغربية فإن رمال الصحراء تجتاح الوادى فى غير هوادة حتى تبلغ جرف النهر نفسه ، وتحملها الرياح الشمالية الغربية التى تسود الإقليم فى فصلى الشتاء والربيع. ولا يتيح السهل الضيق قيام الزراعة عموما إلا فى الجهات التى تصد الجبال فيها الرياح الرملية العاتية. لذلك كانت الضفة الشرقية أكثر عمرانا من الغربية ولكن الغريب أن كل الآثار الهامة تقوم على الضفة الغربية. ولعل قدماء المصريين كانوا أشد تدينا وتعبدا لآلهتهم الكريمة فى البقاع التى يخشون فيها شدة بطش إله الشر «تيفون» (١) (الذى يمثل الصحراء) ، العدو اللدود للإله الخيّر أو زيريس (الذى يمثل مياه النيل).
ومجرى النهر هنا فى جملته اضيق كثيرا منه فى أى أجزاء مصر ، واعتراض الشطوط الرملية لسير المياه هنا أقل. وما إن ينتهى الفيضان حتى يزرع النوبيون الفقراء فى الوادى الضيق الذرة والدخن (الذى يصنع منه الخبز) (٢). ولكن جل اعتمادهم فى الغذاء على محصول الذرة ، كذلك تصلح سيقان الذرة الجافة طعاما لماشيتهم طوال الصيف بدلا من التبن. وبرسيم مصر لا يعرف هنا ، ولا فى صعيدها جنوبى قنا. وبعد أن تنحسر مياه الفيضان وينتهى محصول الذرة ، تروى التربة بالسواقى التى تديرها الأبقار ، فترفع الماء إما من النهر أو من آبار محفورة على الشاطىء ، لأن الماء الباطنى موفور فى كل مكان بعد الفيضان على عمق خمس عشرة قدما أو عشرين. ومثل هذا تجده فى الصعيد صيفا ، ولكن مياه هذه الآبار كريهة المذاق ضاربة إلى الملوحة ، وأفضل أنواعها عسر الهضم (٣). ولكى تتشرب التربة المياه
__________________
(١) إله الشر عند المصريين هو ست (وهو تيفون عند اليونان) ، وست أخو أوزيريس وقاتله ، وعدو هورس بن أوزيريس (المترجم).
(٢) لا يزرع الدخن فى مصر ، ولكنه طعام أساسى فى دارفور وسنار وساحل للبحر الأحمر من جدة إلى اليمن.
(٣) للشرقيين ذوق مرهف يميزون به الماء ، وهم يصفونه عادة بالخفة أو الثقل. وكذلك كان الإغريق يميزون بين النوعين.