الفصل الثلاثون
ذكر ما فى مصر أم الدنيا من مكاتب الصبيان لتعليم القراءة
فى القاهرة ألفان وخمسة عشر مكتب للصبيان أوقافها دائمة ، بالإضافة إلى ألفا مكتب لتعليم الحساب إلا أن أوقافها معطلة ، وقد أقام مائة وستة وخمسون سلطانا على أسبلة جوامعهم مكاتب لتحفيظ القرآن الكريم ، ولسائر الوزراء والوكلاء والأثرياء وأصحاب الخيرات أربعة آلاف سبيل ، وفوق كل سبيل مكتب منقوش ذو كوات وكأنه قصر يوسف. وهذا دأب أهل مصر ، فكل مكاتبها مقامة فوق الأسبلة ، وكلها مكسوة بقماش زنبورى ، وفى هذه المكاتب يتلو جميع الصبيان آيات الذكر الحكيم.
وطبق هذا الإحصاء يوجد فى مصر كلها ستة آلاف ومائة وستة وسبعون مكتبا ، وأغلبها تابعة لجوامع السلاطين.
وفى النصف من شهر رمضان يجتمع مدرسو مكاتب السلطان الغورى والسلطان حسن والسلطان قلاوون والسلطان الأشرف والسلطان المؤيد وغيرها من مكاتب السلاطين والوزراء وحولهم الصبيان من الفقراء والمعوزين وينقسمون طائفتين : طائفة تقول : (يا حنّان) ، وطائفة أخرى تقول : (يا منّان) ، وقد تشابكت أيديهم وتعالت أصواتهم ومروا فى وسط السوق وقد تبعهم شيوخهم وانطلق الجميع إلى مكتب الناظر. وينال جميع الصبيان من الوقف قماشا من حرير مصر والخلع والقلانس الحريرية ويلبسونها ، ويتقاضون مرتباتهم وهى من أربعين أو خمسين باره مصرية ، ثم يمضون فى طريقهم فرحين قائلين : «يا حنان يا منان» وتدوم الحال على ذلك فى القاهرة من منتصف رمضان حتى يوم عرفة ، وتموج مكاتب الصبيان بهم ويمضون زرافات زرافات إلى نظارهم.
حقا إنها لأوقاف عظيمة ، وفى وقت الظهر والعصر يصعد المؤذنون الآذان من منائر جميع جوامع السلاطين وبذلك تغمر عظمة الله تعالى كل أرجاء القاهرة.
وفى المكاتب التى على الأسبلة يترنم أربعون أو خمسون صبيا رخيم الصوت بمنظومة المحمدية ، ويدوم الآذان فى القاهرة مدة ساعة بنغمات حجاز وسيكاه وحسينى ، ومثل هذا الآذان فى مكاتب الصبيان لا وجود له فى بلاد أخرى.