فلما وصل الرسول إلى الاسكندر أخبره بجميع ما شاهد ، فتعجب الاسكندر من ذلك ، فلما أن كان في صبيحة تلك الليلة جلس الاسكندر جلوسا خاصا ودعا الفيلسوف ، فلما أقبل رآه طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية فقال في نفسه : هذه بنية تضاد الحكمة ، ومن كان كذلك فهو أوحد زمانه ، فأحسّ الفيلسوف بذلك فأدار اصبع السبابة حول وجهه ثم وضعها على أنفه ، ثم دنا مسرعا فحيّا الملك ، فأشار إليه بالجلوس ، وسأله عن وضع اصبعه على أنفه ، فقال : فهمت ما خطر لك فأشرت إلى أنّه ليس في الهند غيري ، كما أنّه ليس في الوجه إلّا أنف واحد ، قال : فما معنى غرز الابر في السمن؟ قال : فهمت أنّك تقول : علمت حتى لا مجال للزيادة كما ملئ هذا الاناء ، فأشرت إلى أن الكامل يقبل الكمال. قال : فما المراد من بسط الكرة؟ قال : فهمت أنّك تقول : قلبي قسا من سفك الدماء واشتغل بهذا العالم فلم يقبل العلم ، فأشرت إلى أنّ جلاء الصدأ ممكن كما صار من الكرة مرآة تري الأجسام. قال : فما المراد من جعلها طاسة طافية على الماء؟ قال : فهمت أنك تقول : الأيّام قصيرة ، والأجل قريب ، ولا يدرك العلم الكثير في الزمن القليل ، فأشرت إلى أن قطع المسافة الطويلة في الأمد اليسير متيسّر كما طفت الراسبة على وجه الماء في أسرع وقت. قال : فما بالك حين ملأت الإناء بالتراب لم تردّ الجواب؟ قال : فهمت أنك تقول : ثم الموت ، فأخبرتك أنّه لا حيلة في ذلك. فقال الاسكندر : صدقت ، ولا حسننّ إلى الهند لأجلك ، وأمر له بجوائز كثيرة ، فقال : لو أحببت المال ما أردت (١) العلم فلست أدخل علمي ما يضادّه وينافيه. ثم نصح الاسكندر بنصائح يأمره فيها بالعدل والاحسان. فخيّره الاسكندر بين المقام عنده ، والعود إلى وطنه ، فاختار العود إلى وطنه فلحق بأرضه. وما أحسن قول من قال :
ولو أنّ الغريب غدا مليكا |
|
ونال من العلى أقصى مراده |
لبات وقلبه يصلى بنار |
|
لتربة أرضه وهوى بلاده |
__________________
(١) في ك (ما نلت) مكان (ما أردت).