وهل أباكر بحر النّيل منشرحا |
|
وأشرب الحلو من أكواب ملّاح |
بحر تلاطمت علينا أمواجه حين متنا من الخوف ، وحملنا على نعش الغراب ، وقامت واوات دوائره مقامع فنصبتنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب ، وقارن العبد فيها سوداء استرقّت موالينا وهي جارية (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(١) ، (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ)(٢). واقعها الحرب فحملت بنا ، ودخلها الماء فجاءها المخاض ، وانشق قلبها لفقد رجالها ، فجرى ما جرى على ذلك القلب وفاض. وتوشّحت بالسواد في هذا المأتم ، وسارت على البحر وهي مثل ، وكم سمع للمغاربة على ذلك التوشيح زجل. برج مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت ، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسنّدة عدّ من المقبرين في تابوت. تأتي بالطباق ولكن بالقلوب ، لأن صغيرها كبير ، وبياضها سواد ، وتمشي على الماء ، وتطير مع الهواء ، وصلاحها عين الفساد. إن نقّر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود ، وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود. تتشامم وهي ـ كما قيل ـ أنف في السماء وأست في الماء ، وكم نطيل الشكوى إلى قامة صاريها (٣) عند الميل وهي الصعدة الصمّاء ، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين ، وتتصابى إذا هبّت الصّبا وهي ابنة مائة وثمانين ، وتوقف أحوال القوم (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ)(٤) وتدعي براءة الذمّة وكم استغرقت لهم من أموال. هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج ، وكم وجلت القلوب لمّا صار لأهداب مجاذيفها في مقلة البحر اختلاج ، وكم أسبلت على وجنة طرّة قلعها فبالغ الريح في تشويشها ، وكم مرّ على قريتها العامرة فتركها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)(٥). تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعدّ ، ولقد رأيناها
__________________
(١) سورة طه / ٧٨.
(٢) أصل الآية (هل أتاك حديث الغاشية) سورة الغاشية / ١.
(٣) الصاري : عمود يركز قائما في وسط السفينة يعلّق به الشراع ، جمعه صوار.
(٤) سورة هود / ٤٢.
(٥) سورة البقرة / ٢٥٩ وسورة الكهف / ٤٢.