وجد في السير ، فلما شارفهم ، وهم غارون ، وشاهدوا راياته قد أظلتهم ، بادروا بلبس السلاح والركوب ، وافترقوا أربع فرق ، وحملوا على المسلمين ، فعند ذلك ترجل (١٨٥ ظ) الملك نور الدين ، وترجلت معه الأبطال ، وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح ، فما كان إلا كلا ولا ، حتى تزلزلت بهم الأقدام ، ودهمهم البوار والحمام ، وأنزل الله العزيز القهار نصره على الأولياء الأبرار ، وخذلانه على المردة الكفار ، وتمكنا من فرسانهم قتلا وأسرا ، واستأصلت السيوف الرجالة ، وهم العدد الكثير ، والجم الغفير ، ولم يفلت منهم على ما حكاه الخبير الصادق غير عشرة نفر ، ممن ثبطه الأجل ، وأطار قلبه الوجل ، وقيل إن ملكهم لعنهم الله فيهم ، وقيل إنه في جملة القتلى ، ولم يعرف له خبر ، والطلب مجد له ، والله المعين على الإظفار به ، ولم يفقد من عسكر الإسلام سوى رجلين أحدهما من الأبطال المذكورين ، قتل أربعة من شجعان الكفرة ، وقتل عند حضور أجله ، وانتهاء مهله ، والآخر غريب لا يعرف ، فكل منهما مضى شهيدا ، مثابا مأجورا ، رحمهماالله ، وامتلأت أيدي العسكرية من خيولهم ، وعددهم وكراعهم ، وأثاث سوادهم الشيء الذي لا يحصى كثرة ، وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بآلاتها المشهورة ، وكان فتحا من الله القادر الناصر عزيزا ، ونصرا مبينا ، أعز الله بهما الإسلام وأهله ، وأذل الشرك وحزبه.
ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى إلى دمشق ، في يوم الأحد تالي يوم الفتح ، وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ، ومعهما راية من راياتهم منشورة ، وفيها من جلود رؤوسهم بشعرها عدة ، والمقدمون منهم ، وولاة المعاقل والأعمال ، كل واحد منهم على فرس ، وعليه الزردية والخوذة ، وفي يده راية ، والرجالة من السرجندية والدركبولية (١) كل ثلاثة وأربعة وأقل وأكثر في حبل ، وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحصى
__________________
(١) فرسان خفاف غالبا ما كانوا من المرتزقة.