الهجاء مجيد فيه ، لا يكاد يسلم من مقاطيع هجائه : منعم عليه ، ولا مسيء إليه ، وكان طبعه في الذم أخف منه في المدح وكان يصل بهجائه ، لا بمدحه وثنائه.
ووصل إلى دمشق الأديب أبو عبد الله محمد بن [نصر بن](١) صغير القيسراني الشاعر من حلب يوم الأحد الثاني عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين باستدعاء مجير الدين له ، وحضر مجلسه وأنشده قصيدة حبرها يائية ، مقيدة حسنة المعاني والمقاصد ، فاستحسنها السامعون واستجادها ، وشفعها بغيرها ووصله أحسن صلة واتفق عوده إلى منزله ، فعرضت له حمى حادة ، وجاء معها إسهال مفرط قضى نحبه في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة ، وكان أديبا شاعرا مترسلا فاضلا ، بليغ النظر ، مليح المعاني ، كثير التطبيق والتجنيس ، وله يد قوية في علم النجوم والأحكام والهيئة ، وحفظ الأخبار والتواريخ ، وكان بينه وبين أبي الحسين أحمد بن منير على قديم الزمان مشاحنات ، حرص معها على الإصلاح بينهما فما تهيأ ذلك لمن رامه ، وكان بينهما هذه المدة اليسيرة.
وكان قد ورد من بغداد إلى دمشق في أوائل سنة ثمان وأربعين وخمسمائة الشيخ الإمام الفيلسوف أبو الفتح ابن الصلاح ، وكان غاية في الذكاء ، وصفاء الحس ، والنفاذ في العلوم الرياضية : (١٧٥ و) الطب والهندسة والمنطق والحساب ، وفنون النجوم والأحكام والمواليد ، والفقه وما يتصل به ، وتواريخ الأخبار والسير والآداب ، بحيث وقع الإجماع عليه ، بأنه لم ير مثله في جميع العلوم ، وحسن الخلق ، ونزاهة النفس ، بحيث لا يقبل من أحد من الولاة صلة قلت أو كثرت ، واتفق للحين المقضي أنه عرض له مرض حاد ، ومعه إسهال مفرط أضعف قوته ، أقام
__________________
(١) أضيف ما بين الحاصرتين من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني الكاتب ـ قسم شعراء الشام ـ ط. دمشق ١٩٥٥ : ١ / ٩٦ ، وفي هذا الجزء حديث مطول عن كل من ابن منير والقيسراني : ٧٦ ـ ١٦٠.