وأقبل على الآخرة ، ولزم تلقين القرآن طول نهاره في المسجد ، لا تراه إلا في حلقة بين كبار وصغار وكهول وشيوخ ، وانتفع به من أبناء المدينة خلق كثير ، لكن مع تجويد وتحرير وتربية لهم ، وضبط وشد ، حتى أنه ليضرب ذا الشيبة بيده ويأخذ بلحيته وأذنه ، أقام بمكة هو وأخوه في الله : الشيخ الصالح المهدي يحيى التونسي وكانا قد اصطحبا قديما وتواخيا في الله وصحبا الشيوخ وجالا في البلاد على قدم التجريد ، وزيارة الصالحين من المشايخ ، واتفق لهما في أيام سياحتهما ومدة تنقلهما في البلاد عجائب وغرائب ولقيا من السادة جماعة كبيرة ، منهم : أبو العباس المرسي فمن بعده من الشاذلية وغيرهم في أيام إقامتهما بمصر ، وورد عليهما من العجم : النجم الأصبهاني شيخ مكة ، فصحباه وخدماه بل واجتمعا به أيضا عند المرسي باسكندرية ، ورافقاه منها إلى مكة من جهة الصعيد ، ونفد الزاد منهم ، فلم يكن لهم قوت إلا من نبات الأرض ، فلما أشرفوا على القرب من قبر أبي الحسن الشاذلي قال لهما النجم : إذا كان غدا إن شاء الله فستردون قبر أبي الحسن وضيافتكم عنده لوز وزبيب فكان كذلك ، فلما وصلوا إلى عيذاب تلقاهم الناس وأضافوهم كثيرا ، فكان النجم يبعث بالطعام إلى أهل القافلة التي صحباها مع كونهم كانوا يعاملونهم بقسوة شديدة عليهم في الحاجة ، ولذا ندموا الآن على تفريطهم في خدمة الشيخ ، ثم قال النجم ليحيى التونسي أحد من رافقهم ولصاحب الترجمة : يا يحيى ويا عبد الحميد لن تجوعا بعد هذه الجوعة أبدا ، فكان كذلك ، وأقاما معه بمكة مدة طويلة ، وتزوج يحيى زوجة حنث فيها ولم يثق بمن يحللها له إلا بصاحب الترجمة ، فسعى في تزويجه بها ، فلما باتت عنده تشوف يحيى إلى أن يطلقها لتحل له ، فلم يفعل لاغتباطه بها ، وقال له : لا أكون له محللا ولم أتزوجها بهذه النية ، بل لصحبة الأبد فاقطع رجاءك منها ، ولا تكن ممن يفسد ما هو لله بما للدنيا ، فكف عنها الشيخ يحيى وأقامت مع صاحب الترجمة ، فولدت له ابراهيم واسماعيل وبنتا ، وسافر بهم إلى مصر يريد التعريف بهم والإعانة عليهم ، وكان يقول قبل سفره : ما أظن أجلي إلا وقد قرب ، فإني مسافر من غير ضرورة وما أظن ذلك إلا للنقلة إلى التربة ، فكان كذلك ، مات بقطيا من طريق مصر سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، وذكره المجد ، فقال : موغان ـ بالضم والغين المعجمة ـ هكذا ينطق به العجم ، والصواب موقان بالقاف ـ وهو نسبة إلى ولاية فيها قرى وبروج يحتلها التركمان للرعي ، وهي بأذربيجان ، قال : وكان عبد الحميد من أهل الخير والصلاح وممن رزقه الله برؤية المشايخ الكبار النجح والفلاح ، أقام بالمدينة متخليا عن الدنيا متحليا بطلب المرتبة العليا مواظبا على تلقين القرآن طوال النهار ينتفع به الشيوخ والكهول والكبار والصغار ، مع ضبط وتقييد وتحرير وتجويد ، لقي الشيخ أبا العباس المرسي صاحب الشيخ أبي الحسن الشاذلي ، وصحب هو وصاحبه يحيى التونسي الشيخ نجم الدين الأصفهاني من