خفية (وهى ضربان) الأولى : (مجردة ؛ وهى) التورية (التى لا تجامع شيئا مما يلائم) المعنى (القريب ؛ نحو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١) فإنه أراد ب استوى معناه البعيد وهو استولى ولم يقرن به شىء مما يلائم المعنى القريب الذى هو الاستقرار (و) الثانية (مرشحة) وهى التى تجامع شيئا مما يلائم المعنى القريب (نحو : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(٢) أراد بالأيدى معناها البعيد وهو القدرة وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذى هو الجارحة المخصوصة وهو قوله بنيناها إذ البناء يلائم اليد
______________________________________________________
أى : وإن لم يكن هناك قرينة أصلا لم يفهم إلا القريب فيخرج اللفظ عن التورية. (قوله : خفية) أى لأجل أن يذهب الوهم قبل التأمل إلى إرادة المعنى القريب ، فلو كانت القرينة واضحة لم يكن اللفظ تورية لعدم ستر المعنى القريب للبعيد ، واعلم أن خفاء القرينة لا يشترط أن يكون بالنسبة للمخاطب ، بل يكفى ولو باعتبار السامعين كما فى الأطول.
(قوله : وهو استولى) أى فالاستواء كما يطلق على الاستقرار فوق الجسم يطلق على الاستيلاء على الشىء أى ملكه بالقهر والغلبة كما فى قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
والمعنى الأول قريب والثانى بعيد ، والمراد منه فى الآية المعنى البعيد أى الرحمن استولى (٣) على العرش الذى هو أعظم المخلوقات ، فأولى غيره ، والقرينة على ذلك خفية وهى استحالة المعنى القريب وهو الاستقرار حسّا على الله تعالى فوق الجرم ، وإنما كانت تلك القرينة خفية لتوقفها على أدلة نفى الجرمية وليست مما يفهمها كل أحد. (قوله : ولم يقرن به شىء مما يلائم المعنى القريب) أى : فتكون مجردة لتجردها عما يرشح خفاءها وهو ذكر ما يلائم القريب ، وقد يقال : العرش الذى هو السرير يلائم المعنى القريب الذى هو الاستقرار الحسى فلعل الآية من قبيل التورية المرشحة.
(قوله : مرشحة) ترك المصنف تعريفها لفهمه من تعريف المجردة بطريق المقابلة (قوله : مما يلائم المعنى القريب) أى : المورى به عن المعنى البعيد المراد ، واعلم أن ترشيح
__________________
(١) طه : ٥.
(٢) الذاريات : ٤٧.
(*) تأويل الاستواء بالاستيلاء استدلالا بالبيت المذكور مردود من عدة وجوه : أولها : أن البيت ليس من شعر العرب المحتج بقولهم ثانيها : أن معنى الاستواء مشهور لدى أهل العلم كما ثبت عن ربيعة شيخ مالك وعن مالك الإمام حيث قال كل واحد منهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول ؛ لأنه لو لم يكن معنى الاستواء فى الآية معلوما لم يحتج أن يقول : والكيف مجهول. ثالثها : تفسير استوى باستولى تفسير جهمى معتزلى لم يفسر به أحد من الصحابة ولا التابعين. رابعها : أن الاستيلاء يشعر بالمقاومة والمغالبة فمن كان مستوليا على العرش قيل الله. خامسها : أن الاستيلاء عام على سائر المخلوقات ، فلو كان معنى الاستواء الاستيلاء لجاز أن يقال : استوى على الماء وعلى الهواء وعلى الأرض وهذا لا يشك في بطلانه وغير ذلك من الأدلة انظرها فى العقائد السلفية لآل بوطامس ١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٧.