الجبال فلما أتى عن آخرنا ارتقبنا منه أن يتكلم ويسأل الدراهم كما هي عادة عرب الحجاز أعني هبّ الريح فلم يطلب من أحد دعاء ولا سأل شيئا منه بل رفع قربته ولم يلتفت إلى أحد منا فعجب جميعنا منه ووقع في قلوبنا أن هذا الرجل من أهل الله وأنه من عباد الله الصالحة إذ يعلوه جلال وهيبة ونور فندم الكل من حيث أنهم لم يسألوا منه الدعاء ومع ذلك آثر بمائه العلماء من الركب وفضلاءه فزال ما بنا من العطش فنزل الركب قرب الآبار وازدحموا عليها لسقي الإبل وملء السقاية زحمة عظيمة حتى ظننا أنه لا يبقى فيها قطرة ماء بل بفضل الله يتزايد فاستقينا وسقينا وملأنا السقاية فزاد الماء من عنده الوسع لأن ماء الحوراء ليس بطيب وبعده الدركين المسمى الآن بالحنك لا ماء فيه وبعده الإكراه فماؤه أقبح وأقبح مرارة فمن شربه ربما أذاه وأوجب له المرض وعنده تتغير الوجوه وتسود قل أن يسلم الناس منه من الوخم أي المرض ومع ذلك أنه لا يحصل إلا بمشقة عظيمة من الحفر والاستسقاء بالأواني الصغار كالقدح وغيره فلا ينبغي للحاج أن يكثر الأكل في هذه المنازل لأن كثرته تستدعي الشرب الكثير والشرب الكثير من هذه المعاطن يؤذي كثيرا وربما أهلك وذلك مجرب صحيح وقلة الأكل تشد العصب وثاقا وتقوي الأعضاء فلا يظمأ صاحبها أبدا وضدها يرخي الأعضاء ويضعف البدن بل ربما أمرضه وبعده الوجه ماؤه عذب غير أنه قليل جدا فلا يكفي ماؤه عامة الركب أصلا وإنما يفترقون في الوادي الذي فوقه فيحفرون فيه حفائر وماؤه قليل فلا يحصل منه نفع إلا بطول المدة كعامة الليل والنهار بل ربما تشاجروا عليه فضعيف النفس أو الخدام أو الرفقة رجع منه خائبا فيكون ذلك سبب هلاكه وقد شاهدنا ذلك كله ولو لا فضل الله علينا ما ملأنا السقاية ولا استقينا أصلا ولقد أحسن الله إلينا فلله الحمد والمنة.
ثم ارتحلنا من النبط ليلا وقد اجتمع فيه الركب الجزائري والفزاني والفلالي فلما ارتحل الكل اختلطت الأركاب فلا يعرف أحد صاحبه من كثرة الخلق ومن عادتي مع