وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج ، إلى مآثر جمة ومناقب كريمة ، فارتجت هذه المدينة لوصوله. وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية ألزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه ، افتروا عليه فيها أحاديث مزورة نسبوه فيها إلى مخاطبة الموحدين أيدهم الله ، فكادت تقضي عليه لو لا حارس المدة. وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفا على الثلاثين ألف دينار مؤمينة ، ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقي دون مال. فاتفق في هذه الأيام رضي الطاغية عنه وأمره بالنفوذ لمهم أشغاله السلطانية ، فنفذها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله. وصدرت عنه عند وصوله هذه البلدة رغبة في الاجتماع بنا ، فاجتمعنا به ، فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذا الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دما ، ويذيب القلوب ألما. فمن ذلك أنه قال : كنت أود لو أباع أنا وأهل بيتي ، فلعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه ، ويؤدي بنا إلى الحصول في بلاد المسلمين. فتأمل حالا يؤدي بهذا الرجل ، مع جلالة قدره وعظم منصبه ، أن يتمنى مثل هذا التمني مع كونه مثقلا عيالا وبنين وبنات! فسألنا له الله عزّ وجل حسن التخلص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة. وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله ، عزّ وجل. وفارقناه باكيا مبكيا ، واستمال نفوسنا بشرف منزعه ، وخصوصية شمائله ، ورزانة حصاته ، وشمول مبرته وتكرمته ، وحسن خلقه وخليقته. وكنا قد أبصرنا له ولإخوته ولأهل بيته بالمدينة ديارا كأنها القصور المشيدة الأنيقة ، وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم. وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم ، أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد ، والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنّه.
ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه إلى التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد ، فلا يجد الأب للابن سبيلا ولا الأم للبنت سبيلا. فتخيل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة فيهم. فهم الدهر كله في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال. وأهل النظر في العواقب