عزائمنا ، وأقمنا نرتقب الصباح أو الحين المتاح ، وقد علا الصياح ، وارتفع الصراخ من أطفال الروم ونسائهم ، وألقى الجميع عن يد الإذعان ، وقد حيل بين العير والنزوان (١). ونحن قيام نبصر البر قريبا ، ونتردد بين أن نلقي بأنفسنا إليه سبحا ، أو ننتظر لعل الفرج من الله يطلع صبحا. فأحضرنا نية الثبات ، والبحريون قد ضموا العشاري لإخراج المهم من رجالهم ونسائهم وأسبابهم ، فساروا به إلى البر دفعة واحدة ، ثم لم يطيقوا رده ، وقذفه الموج مكسرا على ظهر البر ، فتكمن حينئذ اليأس من النفوس. وفي أثناء مكابدة هذه الأحوال أسفر الصبح ، فجاء نصر الله والفتح ، وحققنا النظر فإذا بمدينة مسينة أمامنا على أقل من نصف الميل وقد حيل بيننا وبينها ، فعجبنا من قدرة الله عزّ وجل في تصريف أقداره ، وقلنا : رب مجلوب إليه حتفه في عتبة داره.
ثم تمكن الشروق فجاءتنا الزوارق مغيثة ، ووقعت الصيحة في المدينة ، فخرج ملك صقيلة غليام بنفسه في جملة من رجاله متطلعا لتلك الحال : وبادرنا إلى النزول في الزوارق والأمواج لشدتها لا تمكنها الوصول إلى المركب. فكان نزولنا فيها خاتمة الهول العظيم ، ونجونا إلى البر منجى أبي نصر عن قدر. وتلف للناس بعض أسبابهم فتسلوا عن الغنيمة بإيابهم. ومن العجب ، على ما أخبرنا به ، أن هذا الملك الرومي المذكور أبصر فقراء من المسلمين يتطلعون من المركب وليس لهم شيء يؤدونه في نزولهم ، لأن أصحاب الزوارق أغلوا على الناس في تخليصهم ، فسأل عنهم فأعلم بقصتهم ، فأمر لهم بمائة رباعي من سكته ينزلون بها ، وخلص جميع المسلمين عن سلام ، وقيل : الحمد لله رب العالمين. وفرغ النصارى جميع ما كان لهم فيه ، فأصبح في اليوم الثاني وقد جعلته الأمواج جذاذا ، ورمت به البر أفلاذا ، فعاد عبرة للناظرين ، وآية للمتوسمين. ووقع العجب من سلامتنا منه ، وجددنا شكر الله عزّ وجل على ما من به من لطيف صنعه وجميل قضائه وتخليصه لنا من أن يكون هذا القدر ينفذ علينا في الأرض الكبيرة أو إحدى جزائر الروم المعمورة. فكنا ، لو سلمنا ، نستعبد للابد ،
__________________
(١) هذا المثل مأخوذ من صخر بن عمرو السلمي فقد رأى سوء تصرف امرأته مع أحد الرجال فهم بالنهوض إلى سيفه وقد أقعدته الجراح فلم يستطع فقال :
أهم بأمر العزم لو أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان