ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين ، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقا. ووراءها جبل لبنان وهو سامي الارتفاع ، ممتد الطول ، يتصل من البحر إلى البحر ، وفي صفحته حصون للملاحدة الإسماعيلية ، فرقة مرقت من الإسلام وادعت الإلهية في أحد الأنام ، قيّض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان خدعهم بأباطيل وخيالات موّه عليهم باستعمالها ، وسحرهم بمحالها ، فاتخذوه إلها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه ، وحصلوا من طاعته وامتثال أمره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى ويستعجل في مرضاته الردى ، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بقدرته ، نعوذ به سبحانه من الفتنة في الدين ، ونسأله العصمة من ضلال الملحدين ، لا رب غيره ، ولا معبود سواه.
وجبل لبنان المذكور هو حد بين بلاد المسلمين والإفرنج ، لأن وراءه أنطاكية واللاذقية وسواهما من بلادهم ، أعادها الله للمسلمين ، وفي صفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد ، هو للإفرنج ، ويغيرون منه على حماة وحمص ، وهو بمرأى العين منهما. فكان وصولنا إلى مدينة حماة في الضحى الأعلى من يوم السبت المذكور ، فنزلنا بربضها في أحد خاناته.
ذكر مدينة حماة
حماها الله تعالى
مدينة شهيرة في البلدان ، قديمة الصحبة للزمان ، غير فسيحة الفناء ، ولا رائقة البناء ، أقطارها مضمومة ، وديارها مركومة ، لا يهش البصر إليها ، عند الإطلال عليها ، كأنها تكن بهجتها وتخفيها ، فتجد حسنها كامنا فيها ، حتى إذا جست خلالها ، ونقرت ظلالها ، أبصرت بشرقيها نهرا كبيرا ، تتسع في تدفقه أساليبه ، وتتناظر بشطيه دواليبه ، قد انتظمت طرتيه ، بساتين تتهدل أغصانها عليه ، وتلوح خضرتها عذارا بصفحتيه ، ينسرب في ظلالها ، وينساب على سمت اعتدالها ، وبأحد شطيه المتصل بربضها مطاهر منتظمة بيوتا عدة ، يخترق الماء من دواليبه جميع نواحيها ، فلا يجد المغتسل أثر أذى فيها