إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها ، والتفات أعين النوائب إليها ، كالظل الدارس والأثر الطامس ، أو تمثال الخيال الشاخص. فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز العقل والنظر إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين. فهي تردها ولا تظمأ ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ ، هو من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة ، ففتن الهوى ، إلا أن يعصم الله منها ، مخوفة.
وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء ، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء ، يزدرون الغرباء ، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء ، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء ، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده. فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم ، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم. يسحبون أذيالهم أشرا وبطرا ، ولا يغيرون في ذات الله منكرا. يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار ، ولا يعلمون أن فضله ، بمقتضى الحديث المأثور ، في النار. يتبايعون بينهم بالذهب قرضا ، وما منهم من يحسن الله فرضا. فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه ، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه. لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف ، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف. لا يبالون في ذلك بعيب ، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب. فالغريب فيهم معدوم الإرفاق ، متضاعف الإنفاق ، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق ، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق. كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق. فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها ، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها ، أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين ، ووعاظهم المذكرين. لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ، ومداومة التنبيه والتبصير ، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير ، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرا من أوزارهم ، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم ، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم. لكنهم معهم يضربون في حديد بارد ، ويرومون تفجير الجلامد ، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه ،