المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما. وناهيك من هذا الترفيه! فهؤلاء لا يلقون لسفرهم ، وإن بعدت شقته ، نصبا ، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا.
ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات وهو شبيهة الشقادف (١) التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب ، لكن الشقادف أبسط وأوسع ، وهذه أضم وأضيق ، وعليها أيضا ظلائل تقي حر الشمس. ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب.
ثم يرجع القول إلى استيفاء حال النفر عشية الوقفة المذكورة بعرفات ، وذلك أن الناس نفروا منها بعد غروب الشمس ، كما تقدم الذكر ، فوصلوا مزدلفة مع العشاء الآخرة ، فجمعوا بها بين العشاءين ، حسبما جرت به سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج ، وأما مسجده المذكور فعاد كله نورا ، فيخيل للناظر إليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذا الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة ؛ لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة. وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه ، فيدخل منهم كل إنسان بشمعة في يده ، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وشاهدنا منه شمعا عظيما أحضر منه ، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السّرو ، ووضع أمام الحنفي.
فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة ، وهي ليلة السبت ، فلما صلّوا الصبح غدوا منه إلى منى بعد الوقوف والدعاء ، لأن مزدلفة كلها موقف إلى وادي محسر ، ففيه تقع الهرولة في التوجه إلى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار ، وهو المستحب ، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى ، وكل ذلك واسع. فلما انتهى الناس إلى منى بادروا الرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة.
__________________
(١) الشقادف (جمع شقدف) : نوع من المراكب.