جمعته حتى تصوّر منه جملة اشتريت بها ربعا لي وقفته على الجامع ، فإن شئت فكل وإلا لا تأكل.
وولي خطابة سبتة ثلاثين سنة ، وتفقّه عليه أهلها ، وكان يروي «الموطّأ» عن ابن أبي الربيع عن ابن بقي ، سمعته عليه بالحضرة المشرفة من الروضة ، وكان إقامته بالحجاز تسع سنين. توفي رحمهالله بمكة في سنة اثنين وعشرين وسبعمائة.
وأما صاحبه شيخنا الإمام العلامة الأستاذ المقري الولي المحقق السري ، أبو عبد الله محمد بن غصن القصري الأنصاري (١) ، جاور بالمدينة ثلاث مرات ، الأولى : عام تسع وسبعمائة ، والثانية : عام ثمانية عشر وسبعمائة ، والثالثة : عام عشرين وسبعمائة ، وكان عالم زمانه بالقراءات مشهورا بالكرامات ، قرأت عليه وأخذت عنه ، وجودت القرآن عليه ، فرأيت من سنيّ أحواله ، ما لم أره في أحد من أقرانه.
ذكر لي عنه من أثق به : أنه في تونس ظهر حاله ظهورا عظيما ، واتبعه خلق كثير واعتقده الخاصة والعامة ، حتى خاف منه صاحب تونس وخشي على ملكه منه ، فأمره بالرحلة عنه ، وذلك أنه لو أمر الناس بخلعه لفعلوا.
قيل لي : إنه في يوم واحد فكّ كثيرا من الأسرى من أيدي الفرنج بأموال لا تعدّ ولا تحصى ، وكان إذا تكلم في ميعاده في تونس على ما في الكرم والجود والإحسان إلى الخلق وترك الحقوق والتعامي عن الخصوم ، لا يقوم إلا وقد ألقى الناس من وثائق الديون وشبهها ما يشبه ربضة الثور الكبير (٢) ، رضياللهعنه.
فلّما قدم المدينة المشرفة أراد إخفاء حاله ، وكان قصده التأدب مع المقام الشريف ، فلزم الصلاة والإقراء حتى اشتهر حاله وكراماته ، فاجتمع عليه أهل الخير ومشايخ الحرم ، وسألوه أن يجعل لهم يوما يعظهم فيه ، فأنعم لهم بيوم في الجمعة بعد توقف كثير ومعالجة كبيرة ، وربما رأى في
__________________
(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٥٥٩ (٤٠٦٧) ، نقلا عن ابن فرحون.
(٢) يقصد كثرة ما يلقى حتى كأنه ثور رابض ، أي جالس.