وأما السور
الذي داخل المدينة فإنما أحدثه الوزير جمال الدين محمد بن أبي منصور الأصبهاني ،
وكان وزيرا للشهيد الوالد الملك العادل ، ثم استوزره بعد زنكي ولده غازي بن زنكي ،
وكان ممن يضرب به المثل في الجود والكرم والإحسان إلى أهل الحرمين ، وعمر الحرمين
الشريفين ، وبنى الرباط المقابل باب جبريل الشهير برباط الأصفهاني ، وكان يدعى له
على المنبر النبوي.
ويقال : اللهم
صن حريم من صان حرم نبيك بالسور محمد بن علي بن أبي منصور.
وذلك أن العرب
كانوا قد استباحوا أهل المدينة مرارا ، فكانوا لا يتركون لأحد ما يواريه ولا ما يسد
جوعته ، فبنى عليهم هذا السور المذكور ، فاحتموا به من العربان. وهذا السور باق
إلى اليوم ، قد أدخله الناس في دورهم وتملكوه. وكانت وفاة جمال الدين الوزير في
سنة تسع وخمسين وستمائة.
ولنرجع إلى ذكر
مآثر الملك العادل ، رحمهالله ، فمن جملة حسناته أن بنى بالموصل الجامع النوري ،
وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي ، وجامع الرها ، وجامع مبج ، وبيمارستان دمشق ،
ودار الحديث بها.
وله من المناقب
والمآثر ما يستغرق الوصف.
وكان مع سعة
ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها ، لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك كان له
قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ، ومن بيت مال المسلمين بعده ، إلى أن حضر الفقهاء
واستفتاهم فيما يحل له أخذه من مال المسلمين ، فأخذ ما أفتوه به ولم يتعرض إلى
غيره ألبتة. ولم يلبس قط ما حرّمه الشرع من حرير أو ذهب ، وأبطل المكوس من جميع
بلاده ، ومنع شرب الخمر وقمع البدع ، وأخرج الروافض من حلب وأعمالها ، وشتت شملهم
، وكان ورده من نصف الليل إلى طلوع الفجر في صلاة وتلاوة وذكر.
وبعثت إليه
زوجته تستقل النفقة على نفسها وعيالها فتنكر ذلك.
وقال : من أين
أعطيها! والله لا أخوض نار جهنم في هواها ، فإن كانت تظن