وقد خرجت بذكر هذين الملكين عن المقصود الذي أردناه لكن لمصلحة عظيمة ، وهي إقامة الحجة على المتأخرين من الملوك ، فإنهم يستبعدون من أنفسهم طريقة الخلفاء الراشدين ومن حذا حذوهم من الأئمة السابقين ، ويقولون : نحن في الزمن الأخير ، وما لأولئك من نظير!!
فقد أظهر الله تعالى الحجة عليهم بمن هو في عصرهم ، من بعض ملوك دهرهم ، فلن يعجز عن التشبيه بهما أحد إن وفقه الله الكريم وسدده.
وكان الملك العادل الكامل نور الدين ملكا عادلا زاهدا عابدا ورعا ، متمسكا بالشريعة ، مائلا إلى أهل الخير مجاهدا في سبيل الله تعالى ، وكان مواظبا على الصلوات في الجماعات ، عاكفا على تلاوة القرآن ، عفيف البطن والفرج ، مقتصدا في الإنفاق ، متحريا في المطاعم والملابس ، لم تسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره ، وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها ، أو إرشاد إلى سنّة يتبعها.
وقال أبو الحسن ابن الأثير (١) : وقد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام ، وفيه إلى يومنا هذا ، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين.
وكان كثير الصدقات ، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار ، مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ، وبنى أيضا سور بعلبك ، وكمّل بناء سور المدينة (٢) الشريفة النبوية ، وهو سورها الموجود اليوم (٣) ، واسمه مكتوب على باب البقيع ، رحمهالله.
وأجرى العين التي تحت جبل أحد وأظنها عين الشهداء ، فإن العين التي أجراها معاوية مستبطنة للوادي وقد دثرت ، ورسومها موجودة إلى اليوم ، والله أعلم.
__________________
(١) انظر : «الكامل في التاريخ» لابن الأثير ٩ / ١٢٤.
(٢) لمزيد المعرفة ببناء سور المدينة ، انظر : رسائل في تاريخ المدينة / الرسالة (٢) ، نشرها حمد الجاسر.
(٣) يعني إلى حياة المؤلف ، وقد جدد السور بعد ذلك. انظر المصدر السابق.