قليل السعي في الوظائف ، متقنّعا باليسير من الدنيا ، مظهرا للتجمل في ملبسه وحال أولاده وعياله ، من أعقل الناس وأكثرهم نصحا وأحزمهم رأيا ، مخالطا للناس مباينا لهم ، لا يخوض معهم في شيء مما تختشى عاقبته من أمور الدارين ، ولا يذكر أحدا بغيبة ، فإن ذكرت بحضرته أنكر أشد الإنكار ، وإن سمعها من ذي حرمة التمس للمقول فيه عذرا ومخلصا ، وكان من أحسن الناس خلقا وأكثرهم فكاهة في حق وأحسنهم هديا. وبالجملة فكان حسنة زمانه ، ونادرة إخوانه. توفي رحمهالله في سنة ست وستين وسبعمائة.
وهو خال صاحبنا في الله تعالى الفقيه العالم العامل الورع الزاهد شمس الدين محمد بن محمد بن يحيى الخشبي (١) ذي النفس الزكية ، والأخلاق الرضية ، والطريقة المرضية ، اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة وشارك في علوم عديدة وأتقنها ، ثم أكبّ على الإفادة والاشتغال ونشر العلم طول نهاره ، وصحب الشيخ العالم الرباني شيخ وقته وبركة عصره الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي نفع الله به.
وصحب الشيخ موسى الغزاوي والشيخ سليمان الونشريسي وخلائق لا يحصون كثرة فاكتسب من أخلاقهم وتأدب بآدابهم وسار على هديهم. وهو اليوم أحد المؤذنين بالحرم الشريف النبوي ، وليس فيهم ـ بل ولا في المدينة اليوم ـ من يعلم علم الميقات مثله ، وكان قد رباه والده محمد بن يحيى ، وأنشأه الشيخ محمد بن إبراهيم المتقدم ذكره ، وأصله من العبابيه فرقة كبيرة من أولاد المدينة منهم يوسف الشربشير شيخ الشيعة وفقيههم ، وكان جدهم مغربيا سنيا ، تزوج من بنات المدينة ومات عن أولاد صغار ، فنشأوا في مذهب أمهم ، ثم كثروا وانتشروا وتمذهبوا بمذهب الشيعة وغلوا فيه.
وكذلك الفرقة المعروفون بالمزاتيين أبوهم أيضا من الغرب وهم طائفة كبيرة ، وكان الشيخ محمد بن يحيى رجلا صالحا متصوفا متعبدا مشتغلا بالعلم مؤذنا بالحرم الشريف ، استنقذه الله من تلك الطائفة وكان شافعيا أشعريا متيقظا في دينه ، وإنما اشتغل ولده بمذهب أبي حنيفة لأن والده
__________________
(١) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٢٤٧ (٦٦٩).