فأوقع الله في ذهني أنه في دار الحق وأنه لم يقل إلا حقا. فبكيت وأردت أن أسأله عن حاله ، ثم أنسيت.
وقلت له : أنت صاحبي فلا تنساني واشفع لي.
توفي رحمهالله في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ، ومولده سنة تسع وخمسين وستمائة.
وكان من المشايخ الأجلاء مشايخ الغرب المجولين المسافرين ، الشيخ علي بن فرغوص التلمساني (١) رحمهالله. كان له حال عجيب جليل ومقام عظيم ، له رحلة طاف فيها كثيرا من بلاد المشرق والمغرب ، واستفاد علوما جليلة من علم الحرف ، وأسرار الطلاسم والتربيعات ، وعلم السيمياء والكيمياء والروحانيات. وجميع ما تأخذ معه فيه تجد عنده منه طرفا جيدا ، وكان يحكي في مجلسه غرائب ونوادر.
انعطف عليه المجاورون وجميع أهل المدينة وكبار الدولة ووزرائها ، وكذلك أهل مكة بأجمعها ، وكان يمشي طريق المشيان مع جماعته فلا يقطعها إلا في شهر ، لأن العرب كلها صارت تعرفه وتحبه وتعزم عليه ، فكان يجعل سفره سياحة ، وله مناقب جليلة ومحاسن جميلة لا يسوغ ذكرها هنا ، رحمة الله عليه.
وكان من إخواننا الأصفياء الأتقياء المتعبدين المتفقهين الشيخ محمد الهزميري ، دخل المدينة وأقام بها مدة طويلة لا يعيش إلا من الحطب ، يأتي بالحزمة فيبيعها ويتقوت بثمنها ، ثم انتقل إلى قدم التوكل فصحب الشيخ أبا بكر الشيرازي (٢) ، فكان يأخد نفسه بالمجاهدة والعبادة وقيام الليل ، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان في المسجد الشريف فلا يخرج من معتكفه حتى تتورم قدماه وساقاه ، وكان هو والشيخ أبو بكر يتقوتون في كل ليلة بعشر زبيبات ، كل واحد خمس زبيبات وأوقات يطويان ، حتى إنهما إذا خرجا من معتكفهما لا يعرفان من النحول والذبول ، ثم إن الشيخ أحمد
__________________
(١) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٩١ (٣٠٦٢) ، نقلا عن ابن فرحون.
(٢) تقدمت ترجمته.