لا يزال كذلك. كان حبرا منقطعا للمجاورة مشغولا بنفسه ، وجمع من الكتب الجليلة ما لم يجمعه أحد من جنسه ، أتى بها من بلاده ، كانت مشتملة على أصول وأمهات ، ودواوين من تفسير القرآن ، وكتب الفقه والحديث ، والتاريخ والطب ، والمنطق والحكمة ، وعلوم شتى. وكان عنده من كلّ فن تصانيف عديدة ، وكان له عيال وأولاد ، كان إذا أراد الحج إلى بيت الله الحرام أدخل عند عياله جميع ما يحتاجون إليه من طعام وماء ، وسد عليهم الباب بالبناء حتى لا يصل أحد إلى بيته ولا يطلع على حاله ، ولا يزال البيت كذلك حتى يأتي من مكة ويفتح عنهم.
توفي رحمهالله وترك أولاده صغارا فوّصى عليهم وعلى ماله وكتبه نور الدين ابن الصفي فقيه الإمامية في وقتهم ورئيسهم ، لأنه كان جاره وكان بينهما مؤانسة ، ولم تزل الكتب عند ابن الصفي (١) حتى تلفت وأكلتها الأرضة ، وذهب خيارها ووقع عليها المطر.
ثم كبر الأولاد وسافروا إلى مصر ، وبعثوا مع القاضي فخر الدين السنجاري بوكالة على تسلم الكتب وبيعها فبيعت ، وملأت المدينة حتى صار في كل بيت منها جانب من علوم لا يعرفها أحد من أهل هذا الزمان ، ولا يفهمها إلا من عالج أصولها وأدرك شيوخها ، ولقد باع بعض الناس منها نحو أربعة عشر مجلدا كل كتاب بدرهم نسخا مليحة صحيحة في فنون قل من يفهمها في المدينة ، توفي رحمهالله في سنة إحدى وسبعمائة.
وكان من الأشياخ المباركين وأحبابنا السالكين أبو البركات أيمن بن محمد السعدي (٢) ، وكتب بخطه في آخر كتاب أيمن بن محمد بن محمد ، وعدّد من أجداده أحد عشر نفرا كلهم اسمه محمد ، كان له كل يوم وليلة ثلاث ختمات ، وترك أهله وإخوانه في تونس وهاجر إلى الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وكان له ديوان كبير في مدح سيدنا وذخرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(١) هو : نور الدين علي بن الصفي. ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٧٩ (٣٠٣٦).
(٢) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٠٣ (٥٨٢) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة» الورقة ٢٣٤ / أ، «الدرر الكامنة» ١ / ٤٣١ (١١٣٤). ومن العجيب أن أسماء آبائه الأربعة عشر محمد ، كما ذكره ابن حجر في ترجمته ولكن المصنف يذكر هنا أنهم أحد عشر.